في سياق الحرب في أوكرانيا، راحت جهات كثيرة، لا سيّما أوروبية، تعمل على رصد الانتهاكات والجرائم المرتبكة. ألمانيا من بين دول أوروبا التي تأتي بجهود مماثلة، انطلاقاً من مبدأ أنّ العدالة آتية ولو بعد حين.
توثّق السلطات الألمانية ومنظمات غير حكومية، من بينها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، جرائم الحرب في أوكرانيا. ويأتي ذلك مع منح وكالة تعاون العدالة الجنائية في الاتحاد الأوروبي "يوروجست" صلاحيات جديدة للتحقيق بجرائم الحرب في أوكرانيا، بعدما وافق البرلمان الأوروبي على اقتراح قدّمته المفوضية الأوروبية من شأنه أن يسمح لهذه السلطة القضائية بتخزين ومعالجة الأدلة الخاصة بجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية. فمن الممكن أن تشكّل بيانات الحمض النووي والصور وكذلك تسجيلات الفيديو والرسائل الصوتية أدلة دامغة عن الانتهاكات لتقديم مرتكبيها إلى المحاكمة، لا سيّما أنّه سوف يُسمح للسلطات في دول الاتحاد الأوروبي في المستقبل بنقل البيانات إلى منظمات مثل المحكمة الجنائية الدولية وسلطات الاتحاد.
كيف توثق المنظمات غير الحكومية جرائم الحرب؟ أرسلت المحكمة الجنائية الدولية فريق تحقيق يضمّ 42 خبيراً إلى أوكرانيا، معظمهم هولنديون وفرنسيون. أمّا الألمان، بحسب ما ذكرت صحيفة زود دويتشه تسايتونغ الألمانية أخيراً، فلا يشاركون في المهمة على الأرض، لكنّ مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية الذي يعمل بالتنسيق مع مكتب المدعي العام الفيدرالي أرسل مواد ومعدّات ويقدّم الدعم والتدريب، من بينها على سبيل المثال كيفية تحديد هوية الضحية.
وفي غضون ذلك، أبرز موقع المحكمة القانونية أنّ المحققين الألمان يستجوبون لاجئين من أوكرانيا وفدوا إلى البلاد، فيما يُصار إلى تقييم الأدلة والبراهين والصور وتسجيلات الفيديو والتقارير المتاحة لاحقاً، فضلاً عن المعلومات الواردة من الأجهزة السرية والمنظمات غير الحكومية، لا سيّما أنّ المدعي العام يتعاون مع الدول الغربية الأخرى والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
وعن طبيعة العمل، قالت المحققة من ضمن فريق منظمة هيومن رايتس ووتش، بلكيس فيله، لشبكة إيه آر دي الإخبارية أخيراً إنّ الهدف تحديداً هو توثيق كلّ ما يتعلق بقتل المدنيين والتعذيب والاغتصاب والخطف، إلى جانب استخدام أنظمة الأسلحة المحظورة مثل الذخائر العنقودية والألغام الأرضية. وأوضحت أنّ عمل محققي هذه المنظمات يأتي مع مغادرة الروس المواقع، والتعاون يكون مع موظفي المنظمات غير الحكومية في المؤسسات المحلية لمعاينة الفظائع المرتكبة، بالإضافة إلى التحقق ممّا يُنشَر في وسائل الإعلام، وأدلة وإثباتات أخرى، من بينها جمع البيانات من أشخاص مستقلين وكذلك أقوال الضحايا وأهل الشهداء والشهود لتحديد هوياتهم.
تضيف فيله أنّه عند البحث عن الجناة والمسؤولين، يكون نوع السلاح المستخدم مهماً، مع الكشف عن شكل التدمير أو فوارغ القذائف أو أجزاء من الأسلحة وطبيعة فرق العمل المعنية. وتتابع أنّه في حال التمكّن من معرفة الوحدات التي تمركزت فيها ومكانها وزمانها، يمكن تضييق إطار المجموعة المشتبه فيها إلى حدّ كبير، ثمّ محاولة المقارنة والتحقّق من المعلومات التي جُمعت من مصادر واضحة ومعروفة مثل صور الأقمار الصناعية وتسجيلات فيديو، وكلّ ما يُصار إلى التثبّت منه عبر مواقع الشبكات الإلكترونية. وتوضح فيله أنّ مؤسسات الدولة تكون عادة مرتبطة بشكل أفضل مع أجهزة الاستخبارات السرية في البلاد، الأمر الذي يتيح لها الوصول إلى البيانات وصور الأقمار الصناعية والطائرات من دون طيار والتي لا إمكانية للمنظمات غير الحكومية لاستخدامها إلا في إطار ضيق. وتبيّن فيله أنّ منظمتها، هيومن رايتس ووتش، التي تخصص مجموعة من 20 موظفاً فقط في أوكرانيا، قادرة على التحرّك بمرونة بمجرّد استعادة منطقة أو إعادة تموضع القوات الروسية على الأرض.
في سياق متصل، تبرز التقارير الاستقصائية أنّ المنظمات غير الحكومية تتمتّع بصلات أفضل مع السلطات المحلية من تلك الاتحادية وتستشيرها قبل إرسال موظفين إلى مناطق معينة. كذلك فإنّ ثمّة عاملاً حاسماً فيها وهو أنّ أوكرانيين كثيرين على استعداد للإفصاح عمّا يملكونه من معلومات للعاملين معها، وهذه ليست الحال مع موظفي مؤسسات الدولة في الغالب، وهو ما يمثّل دليل ثقة بالمنظمات غير الحكومية التي لا تلتزم بأيّ طرف في الحرب. وتبيّن التقارير أنّ الاستقلالية بالنسبة إلى المنظمات تعني التحقيق مع كلّ الفصائل المتحاربة وأنّ ثمّة رغبة لدى المنظمات والمؤسسات الدولية المهتمة بالتحقيق مع الجنود الروس أكثر من الأوكرانيين. وقد لفتت شبكة دويتشه فيله إلى أنّه مع توثيق تسجيلات فيديو لعمليات الإعدام وجرائم الحرب في سورية، فإنّ روسيا تدرك تماماً حقيقة أنّ هذه المواد والمحتوى مهمّان للمحاكمات الجنائية اللاحقة، لذلك كان على الجنود الروس الذين أُرسلوا إلى الحرب في أوكرانيا أن يتخلّوا عن هواتفهم الذكية.
من جهته، يقول المتخصص في مجال الأسلحة في منظمة العفو الدولية، برايان كاستنر، الذي يعمل حالياً في أوكرانيا، إنّه على الرغم من أنّ مظمته تريد كذلك العدالة في المحاكم، فهي تدرك أنّ كثيرين من مرتكبي الجرائم قد لا يُدانون أبداً. ويشدّد لشبكة إيه آر دي الإخبارية على أنّه من النادر العثور على الجندي مرتكب الانتهاك، لكنّه في الإمكان إثبات أيّ وحدة عسكرية ارتكبت الجريمة، ويبقى مبدأ "مسؤولية القائد". وهذا يعني بحسب كاستنر أنّه في حال الإثبات أنّ قائد الوحدة أصدر أمراً بارتكاب جريمة حرب أو علم بها ولم يتحمّل أيّ عواقب، فبالإمكان محاسبته.
وينتقد كاستنر التحقيقات في جرائم الحرب من قبل المنظمات الحكومية، لافتاً إلى أنّه "على سبيل المثال، عندما تحقق الولايات المتحدة الأميركية بنفسها في الضربات الجوية في أفغانستان والصومال، فإنّه من النادر أن نجد أنّها حدّدت من ارتكب الخطأ، وعند قيام المنظمات غير الحكومية بالعمل نفسه نصل أحياناً إلى نتائج مختلفة تماماً". يضيف أنّ الدول لا توفّر عادة موارد لمثل هذه التحقيقات، فلدى الجيش الأميركي ميزانية بمئات المليارات من الدولارات، ومع ذلك يفيد بأنّ ليس لديه محققون للقيام بذلك.
ويشير رئيس المكتب الفيدرالي للشرطة الجنائية هولغر مونش في مقابلة مع صحيفة دي فيلت أخيراً إلى أنّ إدارته تعمد إلى جمع المعلومات للتحقيق في أعمال التعذيب والإعدامات والاغتصاب التي تُرتكب من قبل الجيش الروسي، ولما يُعرف بجرائم الحرب في أوكرانيا. وكون إدارته تُعَدّ مكتباً مركزياً للجرائم التي تنتهك القانون الجنائي الدولي، وتحقّق نيابة عن المدعي العام الاتحادي، يرى مونش وجوب تحديد الجناة وأولئك الذين أصدروا الأوامر وتقديمهم إلى العدالة، موضحاً أنّ الحرب في أوكرانيا هي واحدة من أحدث مجالات مسؤولية مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية.
إلى جانب ذلك، يوضح مونش أنّ فريقه يعمل على تتبّع كلّ الخيوط، ويُصار البحث عن القرائن وجمع الأدلة لإماطة اللثام عن الارتكابات، و"بذلك فإنّنا في ألمانيا نستعد لتوجيه اتهامات محتملة ضدّ أشخاص يُزعَم أنّهم مسؤولون عن جرائم حرب في أوكرانيا". ويشدّد على أنّه "سبق أنّ تعقّبنا الجناة الذين انتهكوا القانون الدولي في سورية وروندا وحاكمناهم أمام المحاكم الألمانية. ومع ذلك، فإنّ مثل هذه التحقيقات تستغرق وقتاً طويلاً، وفي الغالب سنوات أو عقود، قبل تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة".
وعن كيفية عمل المكتب وطبيعته، يقول مونش إنّ لاجئي الحرب الأوكرانيين على علم بالتحقيقات التي تجريها الشرطة الألمانية، وكخطوة أولى يتلقّى أيّ شخص قادر ومستعدّ لتقديم المعلومات استبياناً يُعَدّ أساساً لمزيد من التحقيقات مثل الاستماع إلى الشهود والضحايا، مشيراً إلى أنّ المكتب تلقّى حتى الآن عدداً مكوّناً من ثلاثة أرقام من القرائن.
ويكمل مونش أنّه إلى جانب ذلك، تُقيَّم المنشورات على الإنترنت، ويتمّ كلّ ذلك عبر تبادل المعلومات على المستوى الدولي، مع "يوروبول" (وكالة الشرطة الأوروبية) على سبيل المثال التي تملك قاعدة بيانات للتسجيل المنتظم للمعلومات. ويبيّن مونش أنّ دائرة الاستخبارات الاتحادية تلقّت تسجيلات لرسائل صوتية تعود إلى جنود روس أبلغوا فيها علانية عن فظائع ضدّ السكان المدنيين. وعمّا إذا كان المحققون سوف يجرون تحقيقات ذات صلة مع إجراءات جنائية محتملة ضدّ القادة العسكريين والسياسيين، يقول مونش إنّ "هذا الجزء هو الأكثر صعوبة في تحقيقاتنا، وهو أحجية معقّدة، وهدفنا الواضح هو تحديد المسؤولين عن الفظائع وإثبات أفعالهم من خلال التحقيقات وتقديمهم إلى العدالة". وعن الآلية التي تدعم فيها ألمانيا المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، يشرح مونش أنّه مثلما تتعاون الشرطة على المستوى الأوروبي، تتعاون السلطات القضائية كذلك، من خلال "يوروجست" على سبيل المثال، فيُصار بذلك إلى تبادل المعلومات على مستوى الشرطة كما القضاء.
كذلك يقول مونش إنّ دولاً أوروبية عدّة (12 دولة) وثّقت مسارح الجريمة في أوكرانيا وساعدت في تحديد هوية القتلى، "أمّا نحن فطُلب منّا تقديم الدعم الفني وقد امتثلنا إلى هذا الطلب". ولم يغفل الإشارة إلى أنّ "وجود الشرطة الجنائية الألمانية في مسرح الجريمة سوف يسمح بدور نشط أكبر، لكنّ الأمر يتطلب أوّلاً تفويضاً دولياً وضمان سلامة موظفينا". وعمّا إذا كان في الإمكان محاكمة مجرمي الحرب في ألمانيا وفقاً لمبدأ الولاية القضائية العالمية، يجيب مونش أنّ "هذا هدفنا حتى لو استغرق الأمر وقتاً طويلاً، علماً أنّنا في بداية التحقيقات الخاصة بالحرب الأوكرانية. والمدّعي العام الاتحادي الذي نقوم بتحقيقاتنا نيابة عنه يجري تحقيقاً هيكلياً، وفي النهاية نريد محاسبة الجناة".