عاد جامع السليمية الأكثر شهرة في أولى عواصم العثمانيين، مدينة أدرنة، إلى الضوء أخيراً، حين أعلن مفتيها علاء الدين بوزكورت أن مليوني تركي وسائح أجنبي زاروا الجامع، العام الماضي، رغم تفشي وباء كورونا. وينافس هذا الرقم عدد زوار متحف آيا صوفيا والجامع الأزرق في مدينة إسطنبول.
وبالنسبة إلى أستاذة التاريخ العثماني سيهان بولكجو ليس هذا الرقم مفاجئاً، لأن جامع السليمية جذب عام 2019 ثلاثة ملايين زائر، وهو تحفة معمارية وحضارية وضع فيها المهندس خوجة معمار سنان آغا عصارة خبرته وتجاربه، ليكون معلماً يظهر من كل أنحاء عاصمة الدولة العثمانية حينها، بعدما اختار موقع بنائه على تلة مرتفعة، واستخدم الخشب والرخام والصدف والخزف وبعض الأحجار الكريمة في زخرفته.
وفي إيماءات تؤكد إعجابها وافتخارها بضخامة جامع السليمية وأهميته، تقول بولكجو لـ"العربي الجديد": "استمر بناء الجامع المطل على الحدود اليونانية 6 سنوات فقط، بين عامي 1569 و1575، خلال حكم السلطان سليم الثاني، لكنه يتضمن غرائب، إذا لم نقل عجائب، في العمارة، وابتكارات من المعمار سنان، لذا، قررت تركيا عام 2011 أن تدرجه على قائمة منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة والفنون "يونسكو" باعتباره أول جامع تركي، رغم وجود أكثر من 78 ألف جامع في البلاد، بعضها ذو صدى وشهرة أكبر من السليمية، مثل جوامع السلطان أحمد والفاتح والسليمانية وأيوب سلطان.
تضيف: "تتميز قبة الجامع الكبيرة المستديرة بأنها تستند إلى ثمانية أعمدة في شكل هندسي فريد، وبأن مآذنها تشبهه الأقلام، وتعد الأطول بين الجوامع التركية، وثاني أطول مئذنة في العالم بعد مئذنة قطب المنار في الهند".
شواهد التحديات
ويروي مؤرخون أتراك أن السلطان العثماني سليم الثاني أراد بناء جامع يخلده بعدما فتح قبرص، وهو ما اعتاد السلاطين فعله بعد كل انتصار، لكنه خشي ألا يحظى بأهمية إذا شيّده في إسطنبول حيث يوجد جامع السليمانية، لذا اختار أدرنة كونها العاصمة القديمة للخلافة، وكلّف أشهر مهندسي العمارة في الدولة العثمانية سنان مهمة بنائه، حين كان في الثمانين من العمر.
واختار المعمار سنان موقع بناء الجامع على تلة بمساحة 2400 متر مربع، ترتفع 30 متراً وسط مدينة أدرنة، كي يستطيع الزوار رؤيته من كل الأطراف، علماً أن مساحته الإجمالية تبلغ 1600 متر مربع.
وترتفع قبة جامع السليمية بعلو 43 متراً ويبلغ قطرها 32 متراً. ويعتبرها مهندسون حديثون إعجازاً في فن العمارة، علماً أن البعض يقول إن "المعماري سنان صممها لتحدي قبة كنيسة آيا صوفيا".
ويستقطب الجامع، المقسم إلى ثلاثة مواقع تضم باحتين وحرماً، اهتمام الأتراك والسياح، كونه تحفة يصفها الأتراك بأنها "أشهر آثار تاريخ العمارة، وأهم التحف المعمارية في عصر الدولة العثمانية"، بحسب وصف مدير الثقافة والسياحة في ولاية أدرنة أحمد حاجي أوغلو، الذي رأى، في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، أن "جامع السليمية تحفة معمارية نادرة أكسبت المدينة ميزة عالمية بعدما أصبح ذكر المدينة والجامع متلازماً".
وعموماً، تتميز مدينة أدرنة بتعدد الثقافات، إضافة إلى الثقافة الرومانية السائدة، والتي يعود إليها السبب وراء ازدهار العديد من الفرق الموسيقية المسماة بالفرق النحاسية في هذه المنطقة. ومن أبرز معالمها إضافة إلى مسجد السليمية، المسجد القديم، ومسجد الشرف الثلاث وبرج المقدونية، وشارع سارجلار. كما تشتهر المدينة بشواطئها النظيفة، وخاصة سواحل خليج ساروس.
التوليب المعكوسة
ومن الروايات الشائعة حول وجود زهرة التوليب المعكوسة على محفل المؤذن في جامع السليمية، أن المعماري سنان كان له حفيدة في التاسعة من العمر، أحبها كثيراً ولم يقوَ على فراقها، فأحضرها معه إلى أدرنة، لكنها مرضت بعد فترة وتوفيت. ومن شدة حزنه عليها، حفر زهرة توليب معكوسة على غطاء الضريح الذي بناه لها. ثم قام أحد مساعدي المعمار سنان الذي رأى حزنه الشديد على حفيدته بنقش نفس الزهرة على رخام محفل المؤذن بجامع السليمية.
كما يتردد في تركيا أن الأرض التي أراد المعماري سنان بناء الجامع عليها امتلكتها سيدة لديها حديقة مزروعة بزهور التوليب. ولم تقتنع ببيع الأرض إلا بصعوبة شديدة. فأمر المعماري سنان بنقش زهرة توليب معكوسة داخل الجامع، ليصور عناد هذه السيدة.
وثمة تفسيرات ودلالات شائعة حول بعض خصائص الجامع الذي شارك 14 ألف عامل في بنائه، منها أن القبة الكبيرة الوحيدة ترمز إلى وحدة الإله، والمآذن الأربعة ترمز إلى الخلفاء الراشدين، ومنابر الوعظ الأربعة ترمز إلى المذاهب الإسلامية الأربعة. ومن الميزات النادرة للسليمية، وزن حجر العقد البالغ 5 أطنان، ووزن الرصاص الذي يغطي القبة (18 طناً).
سنان "العبقري"
وقد تكون الإشارة إلى أشهر معماري في الدولة العثمانية سنان واجباً خلال التطرق إلى جامع السليمية. ويصفه بعض الأتراك بأنه "عبقري العمارة العثمانية حتى اليوم"، وقد خلدوا اسمه على كلية الهندسة في إسطنبول، علماً أنه ترك 365 معلماً تثير الدهشة وتستقطب الزوار حتى اليوم، منها 92 جامعاً كبيراً، و52 مسجداً، و55 مدرسة عثمانية، و7 دور للقُرّاء لتحفيظ القرآن الكريم، و20 ضريحاً، و3 مستشفيات، و6 ممرات مائية، و10 جسور، و20 خانا للقوافل، و36 قصراً، و8 مخازن، و48 حماماً. وقد توفي في إبريل/ نيسان 1588 عن عمر يناهز 98 عاماً، ودفن في كلية السليمانية بإسطنبول، التي بناها وأشرف عليها بنفسه وتعد من أهم تحفه الفنية.
وتقول الباحثة التركية هيلال بوردي لـ"العربي الجديد": "سبقت عبقرية سنان باشا عصره. ومن يدرس تطور فنون العمارة التي صممها وأشرف عليها بنفسه، يلحظ أنه مرّ بثلاث مراحل، رغم أنه كان مقاتلاً وشارك مع القوات الإنكشارية في عهد السلطان سليمان القانوني في حملتي بلغراد عام 1521 ورودوس عام 1522، قبل أن يتفرّغ للبناء والهندسة".
وتشرح: "تعبر هندسة وبناء جامع شهزاده في إسطنبول عام 1548 عن سنان التلميذ الذي قلّدت تصاميمه جوامع أخرى، ثم جاء جامع السليمانية في إسطنبول عام 1557، والذي ألحقت به مكتبة ودور ثقافية، دليلاً على نضجه واتخاذه نهجاً وفناً خاصين به. أما جامع السليمية بأدرنة الذي ختم فيه حياته المهنية، فيعتبر مرحلة تفرده وتفوقه غير العادي، وصولاً ربما إلى الإعجاز".
وتذكر كتب التاريخ أن سنان المولود لأسرة مسيحية عام 1490 في قرية آغيرناص، التي تقع حالياً في ولاية قيصري (وسط)، انتقل للعيش في إسطنبول، ثم اعتنق سنان الإسلام في عهد السلطان العثماني سليم الأول وهو في الثالثة والعشرين من العمر.
ويستشهد الأتراك بقول منسوب إلى العالم الألماني وأستاذ تاريخ العمارة في جامعة فيينا هـ. كلوك، ويفيد بأن "سنان يتفوق فنياً على مايكل أنجلو صاحب أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية"، للتعبير عن محبتهم للمعمار سنان، ويشيرون إلى أن قبره غير المزخرف خارج مقبرة جامع السليمانية بإسطنبول، جاء بناء على وصية منه، كي لا يتحوّل إلى مكان حج".