ثريا مطهرنيا... معلمة إيرانية وهبت نفسها للتلاميذ الفقراء

20 نوفمبر 2021
ثريا مطهرنيا مع تلاميذها (العربي الجديد)
+ الخط -

لم يكن الراتب هو الذي دفع المعلّمة الكرديّة الإيرانية ثريا مطهرنيا (44 عاماً)، لاختيار التعليم في القرى. الأمر ببساطة يتعلق بحبّها للعمل في المناطق النائية. ضحّت بحياتها وحياة أولادها ومالها وحتى بالمستحقات التي تتقاضها من وزارة التعليم الإيرانية لنحو ثلاثة عقود من أجل رسم البسمة على شفاه تلاميذ فقراء وأسرهم، وتمكينهم من الناحيتين التعليمية والاقتصادية
بذلت ثريا جهوداً استثنائية في منطقة "بيجار" التابعة لمحافظة كردستان الإيرانية. ذاع صيتها في إيران والعالم إلى أن اختارتها مؤسسة "فاركي" الخيرية العالمية التي تأسست عام 2010 وتهتم بتحسين معايير التعليم للأطفال المحرومين، ضمن قائمة عشرة معلمين استثنائيين في أنحاء العالم، تنافسوا للفوز بجائزة "فاركي" البالغة مليون دولار بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، قبل أن تفوز بها معلمة أميركية. 
اختارت ثريا مهنة التعليم قبل 26 عاماً، بتوصية من والدها، علماً أنها لطالما أرادت أن تكون كابتن طائرة، فحلم التحليق في السماء كان يراودها مذ كانت طفلة. تقول ثريا لـ"العربي الجديد"، إنها خاضت أول تجربة في سلك التعليم في قرية نائية بعيدة تابعة لقضاء بيجار في كردستان. وتوضح أن حلاوة الخدمة الإنسانية في منطقة محرومة ومع تلاميذ وأسر فقيرة زادت تمسكها بالمهنة ودفعتها إلى مواصلتها، الأمر الذي شجعها على رفض الانتقال إلى المدينة وتولي مناصب تعليمية عرضت عليها.  

قضايا وناس
التحديثات الحية

تتحدث ثريا بشغف وحزن عن تلاميذها وتلميذاتها، كأنهم أبناؤها وبناتها، مشيرة إلى معاناتهم من جراء الفقر والأمراض والإدمان والطلاق والهجرة والبطالة وضعف الإمكانيات والمدارس المتهالكة وغيرها. وتقول إن "كل ما سبق حتّم عليّ البقاء بينهم انطلاقاً من الواجب الأخلاقي والإنساني والشعور بالمسؤولية تجاه هذه العائلات وأولادها". 
وكلّما ابتعدت القرى عن المدن كلّما قلت إمكانياتها وكثرت مشاكلها. لكن المعلمة الإيرانية الاستثنائية ظلت تقصدها خلال السنوات الـ26 الماضية، علها تساعد في حل مشاكلها وحث السلطات على الاهتمام بها، وإدراكاً منها لأهمية هذه المناطق و"دورها الحيوي" في تنمية البلاد. تضيف ثريا: "أعشق التعليم في القرى. الأمر صعب نعم، لكن له حلاوة لا يمكن استبدالها بأي شيء آخر"، موضحة أن "القرى هي تجمع للأصالة والحداثة. أحياناً تواجه قضايا خاصة ومعقدة. لكن تنمية القرى تحد من الهجرة نحو المدن بحثاً عن فرص عمل". 
بالإضافة إلى طفليها، ربت ثريا نحو ألفي تلميذ وتلميذة في مختلف المراحل الأساسية في القرى. وفي وقت كانت تزاول فيه مهنة التعليم، كانت تتولى مهمة إدارة المدرسة وتنظيفها. وتقول إن المعلمين والمعلمات في بعض القرى، وبسبب غياب القوة العاملة والزملاء، يقومون بمهام عدة في آن.  
تواصلت "العربي الجديد" مع عدد من سكان قضاء بيجار الكردي، غربي إيران، فأعربوا عن استحسانهم لما قدمته المعلمة ثريا وأشادوا به. وصفها السبعيني أحمد بأنها "معلمة فذة قل نظيرها"، مشيراً إلى أنها كانت تبحث في القرى عن تلاميذ وتلميذات تركوا الدراسة لتعيدهم إليها. يضيف أن "ثريا ليست معلمة فقط، بل كانت تقوم بأعمال خيرية خارج مهنة التعليم"، لافتاً إلى أنها "كانت تنقل على نفقتها وبنفسها تلاميذ وتلميذات مرضى إلى مدينة سنندج، مركز محافظة كردستان، وأحياناً إلى طهران لتلقي العلاج".  
تقول ثريا لـ"العربي الجديد"، إن "ترك الدراسة لم يكن المشكلة الوحيدة"، مضيفة أن "فتيات قاصرات كن يجبرن على الزواج بسبب ظروف أسرهن السيئة، وخصوصاً الفقر. وليس بالضرورة أن يكن تلميذاتي، لكنهن يبحثن عني ويطلبن المساعدة". 

الأعمال الإنسانية لثريا لم تقتصر على أبناء منطقتها ومحافظتها، بل وصلت إلى مدن ومحافظات أخرى أيضاً، وساعدت آخرين في هذه المناطق. تقول لـ"العربي الجديد": "تشرفت بخدمة فتيات أخريات في مدن وقرى أخرى في أنحاء البلاد، علماً أنهن لم يكن تلميذاتي". 
ما تملكه ثريا لا يعدّ كافياً لتغطية الإنفاق على تلاميذها وتلميذاتها سواء المرضى منهم أو المحتاجين. وعلى الرغم من تخصيص حصتها من ميراث حصلت عليه من والدها، وجزءاً كبيراً من راتبها الشهري الزهيد لهذا الغرض، إلا أنها تعتمد في الوقت نفسه على تبرعات زملائها وزميلاتها وأبناء مدينتها (بيجار) والمحافظة (كردستان) والمحسنين في جميع أنحاء إيران. تدعو ثريا الحكومات والمؤسسات الأهلية والشركات إلى لعب دورها في هذا العمل الإنساني، وكانت قد تعهدت بأن تخصص جائزة "فاركي"، في حال فازت بها، للعمل الإنساني.  

ثريا مطهرنيا2 (العربي الجديد)
ربت ثريا نحو ألفي تلميذ وتلميذة (العربي الجديد)

قصّة سارة في قرية همايون في منطقة بيجار، والتي كانت ثريا تدرّس فيها، قادتها إلى مجال إنساني آخر وهو تقديم العون لأطفال وتلاميذ يعانون من أمراض صعبة ومزمنة. كانت سارة قد أصيبت بحروق شديدة في وجهها وهي في شهرها السابع بعد الولادة، كما فقدت سبعة من أصابعها. تقول ثريا: "لم أكن أتحمل آهات ومعاناة سارة من دون أن أفعل شيئاً. دخلت في نقاش طويل مع أهلها لإقناعهم بالموافقة على أخذها إلى طهران للعلاج. وبعد إصرار، نجحت في الحصول على موافقة أهلها، وبدأنا علاجها وأجريت لها عشرات العمليات الجراحية خلال رحلات متكررة إلى العاصمة". تضيف ثريا: "عولجت سارة وارتسمت على محياها ابتسامة بعد العلاج، وكانت أكبر هدية إلهية لي. مساعدتها كانت توفيقاً ربانياَ قادني إلى البحث عن المزيد من الأطفال مثلها ومساعدتهم". وتشير إلى أن الأجمل بالنسبة إليها هو عندما كانت تشاهد خروج الأطفال سالمين من غرف العمليات الجراحية في المستشفيات، "دموعي كانت تتحول إلى فرح وسرور". لكن أمرّ ذكريات ثريا كانت "عندما كان يفقد بعض هؤلاء الأطفال المرضى أرواحهم الطاهرة على الرغم من تلقيهم العلاج المناسب". 
وتقول ثريّا: "في طفولتي، كنت أعشق الاهتمام بالنباتات والحيوانات وقضاء الوقت مع صديقاتي. كما أن والديّ كانا يهتمّان بتربيتنا اهتماماً كبيراً". وحين أصيبت والدتها بمرض السرطان، كانت تقول لابنتها التي راحت تساعدها لتجاوز هذه المحنة: "إياك أن يشغلك مرضي هذا عن تعليم تلميذاتك والأطفال المرضى وعلاجهم".  
تذكر ثريّا قصة ما زالت تلازمها ويصعب عليها نسيانها. تقول: "تعرفت إلى طفلة مريضة تحتاج إلى زرع كبد. فصيلة دمي كانت من فصيلة دمها نفسها، فقررت أن أمنحها جزءاً من كبدي لإنقاذ حياتها، لكن بعد إجراء كل الفحوصات، أخبرتنا لجنة الأطباء بأن الطفلة بحاجة إلى كبد كامل. فأرسلناها إلى مدينة شيراز حيث يوجد مستشفى معروف بزرع الكبد". تضيف: "استأجرنا لعائلتها بيتاً في شيراز وتم زرع كبد لها بعد فترة، وظلت عائلتها هناك لمدة شهرين لاستكمال علاج الطفلة التي لم يتأقلم جسدها مع الكبد الجديد بسبب مرض وراثي ومشاكل جسدية أخرى ففارقت الحياة". 
تتابع: "خلال هذين الشهرين، قدمنا الدعم المالي والمعنوي للعائلة، لكن المساعدة المالية لم تكن كافية للأسف. وبعد وفاة الطفلة، قررت العائلة نقل جثمانها إلى بيجار، وتكاليف نقل جثمانها بسيارة إسعاف كانت مليونين و500 ألف تومان (نحو 90 دولاراً)، كما أن والدها كان عاجزاً عن دفع المبلغ، لكنه كان مفعماً بالعزة، الأمر الذي منعه من مد اليد لآخرين لطلب العون، فقرر نقل الجثمان بسيارته القديمة (بيكان). وضعه في صندوق السيارة ليقطع به مسافة 1200 كيلومتر. كانت الساعة 12 ليلاً. اتصلوا بي وأخبروني بوفاة ابنتهم وبأنهم في الطريق إلى بيجار بسيارتهم. حينها، أجهشت بالبكاء ولم أقدر على النوم تلك الليلة التي كانت قاسية عليّ. لماذا يجب أن تتحمل عائلة فقيرة كلّ هذه المعاناة؟".  

ذيوع صيتها وتلقيها آلاف رسائل التهنئة من مواطنين من شعبها ومن دول أخرى في الشرق الأوسط ودول غربية لاختيارها ضمن المعلمين العشرة الأوائل في العالم في قائمة "فاركي" زاد شعورها بالمسؤولية أكثر وحماستها لمواصلة المشوار، كما تقول لـ"العربي الجديد". تضيف أن انشغالاتها الكثيرة لم تمنعها من إكمال الدراسات العليا في العلاقات الدولية، مع أبحاث حول "دولة قطر ودورها الوسيط في حلّ الأزمات"، معبرة عن قناعتها بأنّ "قطر لها مستقبل مشرق في تطوير النظام البيئي للابتكار والتعليم، ويمكنها التحول إلى لاعب مطلوب لتحقيق التعاون والتقارب في المنطقة العربية والشرق الأوسط"، مقترحة على دولة قطر "تأسيس منظمة للتعاون التعليمي والتنموي والثقافي في الشرق الأوسط للتقارب بين نخب المنطقة عبر بوابة العلم والثقافة والتنمية المستدامة المبنية على العدالة بغية بناء شرق أوسط يعيش بهدوء ورخاء وتنمية". 

المساهمون