جهود عقود من الأبحاث العلمية اللبنانية والاختبارات والدراسات المعمّقة، تفوق الثلاثين عاماً في بعض المراكز أو 12 عاماً في بعضها الآخر، مهدّدة بالضياع، لا لشيء سوى لانعدام بضع ليتراتٍ من الوقود. فالبلاد التي تعاني أزمة معيشيّة خانقة وفقدان العديد من الأدوية والمعدّات الطبية، استفاقت على أزمة وقود حادّة لم تقتصر تداعياتها الكارثية على انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل فحسب، بل انعكست على المستشفيات وقوّضت أجهزة التنفس والتجهيزات الحيوية، مهدّدةً حياة المرضى، كما أوقفت عمل العديد من الأفران والمعامل والصناعات الغذائية، وصولاً إلى الانفجار المفجع لخزان الوقود في منطقة عكار (شمال لبنان).
10 آلاف سلالة ميكروبيّة مهدّدة
يُطلق رئيس مختبر ميكروبيولوجيا الصحة والبيئة التابع للمعهد العالي للدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا ولكلية الصحة العامة في الجامعة اللبنانية بمدينة طرابلس (شمال لبنان)، الدكتور منذر حمزة، صرخة استغاثة لإنقاذ "مختبر ميكروبيولوجيا الصحة والبيئة". يقول لـ "العربي الجديد": "باعتباري رئيس المختبر، من الواجب التحذير بأنّ مخزوننا من المازوت سينفد خلال ساعاتٍ معدودة (لغاية تاريخ كتابة التقرير)، وبالتالي فإنّ الخطر داهم جداً، في حين لم تتوقّف اتصالاتنا ومحاولاتنا، وعليه بتنا وكأنّنا للأسف متسوّلو مازوت".
يوضح حمزة أن "المختبر بحثي عالي المستوى، يتمّ الإشراف فيه على طلاب مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وهو يضمّ بنك السلالات الميكروبية المعروف عالميّاً باسم Collection Microbiologique de l’Université Libanaise (CMUL)، والذي يُعدّ ثمرة جهودٍ بحثية لعدد من الأساتذة والباحثين والطلاب على مدى 12 سنة، فضلاً عن الأكلاف المادية المرتفعة جداً التي تطلّبتها الأبحاث، وقد وصلنا اليوم إلى 10 آلاف سلالة بكتيرية وفطرية. فبنك السلالات هو باختصار ثروة وطنية علمية لا تُقدّر بثمن، وبالتالي خسارته ترقى لمستوى الكارثة العلمية".
ويشدّد حمزة على أنّ "بنك السلالات يحتاج للكهرباء 24 ساعة في اليوم، وتحفظ السلالات في ثلاجاتٍ على درجة برودةٍ معيّنة (-85 درجة مئوية) وعبر تقنياتٍ محدّدة تسمح بالحفاظ عليها لفتراتٍ طويلة، من أجل استخدامها في الأبحاث والدراسات متى أردنا".
إعدام للثروة العلمية
ينبّه حمزة إلى أنّه "من الخطير جداً أن ينقطع التيار الكهربائي عن الثلاجات، ما سيؤدّي إلى ذوبان محتوياتها، وهي محتويات ضخمة جداً. ونكون بذلك قد حكمنا بالإعدام على إحدى أكبر الثروات العلمية للجامعة اللبنانية". يضيف أن "البحث العلمي لا يقتصر على داتا رقمية فحسب، إنّما نتحدّث هنا عن كائنات وخلايا حيّة يجب حفظها، وإلا سنخسرها بعد أيامٍ معدودة. هناك أنواع من البكتيريا قمنا بدراستها وعزلها وتعريفها وحفظها، ولكن لم يتمّ بعد إجراء الدراسات البحثية المعمّقة عليها، فكيف يمكن خسارتها؟ على سبيل المثال، أجرى معهد باستور في باريس منذ سنوات قليلة دراسة لسلالات عالمية حول وباء الكوليرا نُشرت عام 2019، وكان من بين السلالات المدروسة نحو 50 سلالة عزلناها في طرابلس (شمال لبنان) وخُزّنت وحُفظت منذ عام 1993 في المعهد الفرنسي. فالسلالات التي لدينا، ربّما نجد بعد 20 أو 30 سنة، ضرورة علمية لدراستها من جديد".
يتابع حمزة: "مختبرنا معتمد من وزارة الصحة العامّة لإجراء تحاليل وفحوصات كوفيد ـ 19 لجميع الوافدين إلى لبنان من الحدود البرية الشمالية مع سورية، أو عبر مرفأ طرابلس، بالإضافة إلى حملات وزارة الصحة في الشمال. وهذه الفحوصات تتمّ في مختبر P2+ وفيه تجهيزات حسّاسة جداً ونحتاج للكهرباء فيها خلال العمل، فضلاً عمّا نعانيه والموظّفين لتأمين مادة الوقود كي نصل إلى المختبر".
مختبرات للسلامة الغذائية
من جهته، يؤكّد المدير العام لـ"مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية" (LARI) الدكتور ميشال افرام أنّ "الخطر موجود لكنّه ليس خطراً داهماً، ولا أعتقد أنّنا سنصل إلى يومٍ نوقف فيه التحاليل كوننا نتبع خطة مستدامة لناحية تأمين المازوت والكهرباء، كما المواد الكيميائية التي نشتريها بأسعارٍ خيالية". ويقول لـ"العربي الجديد": "دائماً نحسب حساب الخطر، ونواصل اتصالاتنا مع الجيش اللبناني لشراء كميات من المازوت في حال مصادرتها من أماكن قريبة لمقر المصلحة في تل عمارة (البقاع). ولكن حتى اليوم، فإنّ شركة الوقود التي تزوّد محطتنا الموجودة داخل المصلحة لم تقطعنا بعد".
يضيف: "بادرنا إلى جمع الموظّفين بحافلات تابعة للمصلحة كي لا نوقف العمل. نحن مؤسّسة عامّة تملك 12 مركزاً موزّعاً على كل المناطق اللبنانية، و120 مختبراً. وقد قمنا مؤخراً بتدشين 5 مختبرات من أهم مختبرات العالم. ونحن الوحيدون الذين نملك مختبراتٍ قادرة على فحص كلّ المواد الغذائية المستوردة والمصدّرة والمُصنّعة محليّاً. أضف إلى مختبرات التربة والمياه، وخصوصاً أنّ لبنان يعاني من 70 إلى 90 في المائة تلوّثاً في مياهه". ويلفت إلى أنّه "في حال توقف مختبر المصلحة في منطقة الفنار (جبل لبنان) المعني بفحص المواد الغذائية المستوردة، ستغيب معه معايير السلامة الغذائية، لا سيّما أنّنا نسجّل اليوم الكثير من المواد الغذائية الفاسدة".
بنك بذور النباتات
يكشف افرام أنّ "مصلحة الأبحاث، ورغم ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، لم تقفل أبوابها ولم توقف أيّ تحليل ولم تؤخّر أيّ نتيجة"، ويحذّر بدوره من "خطورة انقطاع التيار الكهربائي وتأثيراته على البحوث العلمية التي واظبت المصلحة على إجرائها منذ أكثر من 30 عاماً، على القمح والشعير وأصناف جديدة أخرى، إذ لا يمكن خسارتها إطلاقاً".
ويقول: "البحث العلمي لا يقتصر على المعطيات والأرقام، بل هو عبارة عن عيّناتٍ وموادٍ جينيّة ونباتية وحيوانية تتطلّب الحفاظ عليها في برّاداتٍ وثلاجاتٍ، حتّى لو تمّ إجراء الاختبارات اللازمة. كما أنّنا نحصد ثمرة بعض الاختبارات على شكل نبتةٍ، بعد 30 عاماً من الجهود، فإذا تُلفت تشكّل خسارة كبيرة".
ويتحدّث عن "بنك البذور الذي يضمّ كلّ أصناف بذور النباتات في لبنان، والمجمّدة بوسائل متطوّرة. ففي حال انقطعت عنه الكهرباء، ستبلغ قيمة الخسائر مئات المليارات". ويكشف أنّهم في صدد "إنشاء بنك بذور ثانٍ يضمّ مئات الآلاف من شتول الأشجار التي احترقت في لبنان لإعادة إنتاجها من جديد، علماً أنّنا تمكّنا من تأمين كلّ شتول النباتات التي التهمتها الحرائق".
سلسلة متكاملة
ويقول افرام: "هناك مختبرات أخرى معرّضة للضرر، وكذلك أجهزة متطوّرة تفقد فعاليّتها في حال انقطاع الكهرباء، إذ إنّ مختبر زراعة الأنسجة، وهو الوحيد في لبنان لإنتاج نباتاتٍ سليمة خالية من الأمراض الفيروسية بكمياتٍ كبيرة جداً وبفترةٍ زمنية قصيرة يحتاج بدوره للكهرباء في كل أقسامه، لحفظ خلايا النباتات ضمن درجات برودة معيّنة وإنارة اصطناعيّة وتقنية متطوّرة جداً. إنّها سلسلة متكاملة. وفي حال خسارتها، نحتاج إلى سنتين أو 3 سنوات لتعويض كل هذه الزراعات والمراحل. كذلك الحال بالنسبة للمختبرات الأخرى، بينها المعدّات المخصّصة لفحص جودة زيت الزيتون ونكهته وفوائده الصحية".
ولا يغفل افرام التنبيه إلى "الانعكاس السلبي للأزمة على طلاب الجامعات اللبنانية، الذين يقصدون مختبراتنا لإجراء أطروحات تخرّجهم. فتخيّلوا أنّ تذهب جهودهم سدىً، كأن تُتلف زراعاتهم مثلاً التي واظبوا على رعايتها خلال 6 أشهر، للخروج بنتائج بحثية. إنّه استنزافٌ للوقت والطاقة والجهود وهدرٌ للمواد الكيميائية".