صدّرت تونس خلال موسم 2020 - 2021 أكثر من 180 ألف طن من زيت الزيتون بقيمة 570 مليون دولار، في مقابل 300 ألف طن بقيمة 650 مليون دولار في الموسم السابق، ما جعلها بين الأولى عالمياً في تصدير زيت الزيتون. لكن الجانب المشرق من هذا النشاط الزراعي يظهر وجهاً آخر يؤرق المواطنين والناشطين والجمعيات البيئية، يتمثل بتشكيل مخلّفات معاصر زيت الزيتون من مادة "المرجين" التي تسمى "الفيتورة" في تونس، أزمة بيئية موسمية.
وتواجه ولايات عدة خلال كل موسم لحصد الزيتون مشكلة في التصرّف بمادة "المرجين"، التي باتت موضع اهتمام الجمعيات البيئية، ولا سيما في محافظة صفاقس (جنوب) التي تحتل المرتبة الأولى في إنتاج الزيتون، وتضم أكبر مصبّ لتجميع رواسب عملية عصر الزيتون، وكذلك محافظات منوبة والمهدية وسوسة والقيروان التي توفر بدورها إنتاجاً وافراً من الزيتون الذي يُحوَّل إلى زيت. وتؤكد الجمعيات البيئية أنّ آثار المخلّفات تبقى سنوات عدة بسبب تراكمها بكميات كبيرة، وتسرّبها إلى باطن الأرض.
وفي دراسة تعود إلى عام 2013، كشفت وزارة البيئة أنّ مادة "المرجين تحتوي على نسبة تراوح بين 7 و15 في المائة من المواد العضوية، وبين 1 و2 في المائة من الأملاح المعدنية مثل الكربونات والفوسفات والبوتاسيوم والصوديوم، وأنّ 53 في المائة من مصبّات المادة البالغ عددها 116 توجد فوق طبقات جيولوجية ذات قابلية مرتفعة جداً للنفاذ إليها، والتسرّب إلى المياه الجوفية، ما يشكل مصدراً رئيساً لتلويثها، و47 في المائة منها فوق طبقات جيولوجية ضعيفة أو متوسطة تسمح بنفاذ المادة إلى المياه الجوفية".
وأفادت الدراسة أيضاً بأن "عملية غلق المصبّات يجب أن تترافق مع عمليات لإصلاح الأراضي، من أجل القضاء على التلوّث الذي سببته، عبر التخلص من طبقة المرجين الجافة بعد تبخرها، وإزالة الأتربة التي توجد تحت طبقة المرجين بسماكة 40 سنتيمتراً على الأقل، وردم المصبات بالطين المضغوط بسماكة 20 سنتيمتراً، تمهيداً لاستصلاح الأحواض في المرحلة الأخيرة، عبر وضع طبقة نهائية من التراب بسماكة 40 سنتيمتراً تُغرَس فوقها نباتات بهدف إعادة الموقع إلى طبيعته وإعادة إحيائه". لكنها استدركت حينها بأنّ العملية تُكلف أكثر من 450 ألف دولار.
والواقع أن مصبّات "المرجين" لا تزال تؤرق المواطنين في مناطق عدة، ولا سيما أولئك الذين يسكنون في أراضٍ مجاورة للمعاصر التي تلقي المخلّفات بطريقة غير قانونية ولا تخضع لرقابة، خصوصاً خلال فترة الليل. ومع بداية موسم حصد الزيتون، ينشر مواطنون على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً وفيديوهات توثق نقل شاحنات المادة وسكبها على الطرقات وفي أماكن قريبة من مجمعات سكنية أو أراضٍ زراعية. ورغم تقديم شكاوى عدة إلى الجهات الرسمية، تتجدد المشكلة موسمياً.
ويوضح الأستاذ الباحث في الجيولوجيا عبد الحميد بن محمد لـ"العربي الجديد" أنّ "المرجين يحتوي على مواد عضوية مضرّة كثيرة، بينها الفينول التي تؤثر بالجهاز التنفسي، وتلحق أضراراً كبيرة بالأراضي على عمق كبير، وتجعل طبقاتها العلوية غير صالحة للزراعة لمدة طويلة. كذلك أنّ جهل بعض الفلاحين كيفية استخدام المادة كسماد للأراضي يضرّ بأراضٍ زراعية كثيرة".
من جهته، يشرح المهندس الفلاحي منصور الريحاني في حديثه لـ"العربي الجديد" أنّ "الفيتورة، أي المادة الجافة المستخرجة من عملية عصر الزيتون مفيدة للأراضي كسماد، لكن بكميات قليلة وفي مساحات محددة. أما المرجين السائلة فمضرّة، وهو ما يجهله فلاحون كُثر يستعملون المادة التي قضت على بعض نباتاتهم، وخطورتها لا تقلّ عن نفايات أخرى وتخلق مشكلة بيئية تتجدد مع حلول كل موسم لحصد الزيتون، في ظل عدم وجود عدد كافٍ من المصبّات المراقبة، ما يضطر بعض المعاصر إلى سكبها في أودية وأراضٍ بعيدة".
وسبق أن أكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن "سكب مادة المرجين عشوائياً في الأراضي الزراعية وعلى الطرقات والمسارات الزراعية والأحياء والأنهر سبّب حوادث كثيرة ووفيات، وقلّص محاصيل الأراضي وأضرّ بالمواشي والموارد المائية ونشر الأمراض، ما أغضب فلاحين وسكاناً في مناطق عدة، الذين نددوا بالانتهاكات التي طاولت صحتهم وموارد رزقهم".
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ السلطات والشرطة البيئية تراقب مصبّات كثيرة. لكن الجمعيات البيئية تؤكد أنه حتى تلك التي تخضع لرقابة تشكل مصدراً لتلويث التراب والهواء، وتدعو إلى تغيير أماكنها، واستصلاح الأراضي التي توجد فيها.
وأطلق شبان مبادرات للإفادة من هذه المخلّفات، بينها لجعفر الحالي الذي نفذ عام 2017 مشروعاً لتحويلها إلى طاقة، لكن هذه المبادرات تبقى بسيطة، ولا تقضي على كميات كبيرة من مادة "المرجين" التي تخلّفها معاصر زيت الزيتون.