كانت الكارثة التي نجمت عن غرق مركب كان على متنه مئات المهاجرين قبالة السواحل اليونانية متوقعة في ظل الأولوية الأوروبية لوقف الهجرة واللجوء، وعدم تكرار موجة سابقة شهدتها القارة العجوز في 2015. ويسعى الساسة الأوروبيون إلى تحويل النقاش الدائر حول المسؤولية عن مأساة غرق المركب الذي انطلق من السواحل الليبية إلى الهجوم على المهربين وحدهم.
أضيف الضحايا الجدد إلى آلاف آخرين غرقوا في البحر المتوسط مع استمرار محاولات الهجرة عبر مراكب متهالكة تحمل مئات السوريين والباكستانيين والمصريين والفلسطينيين والأفغان، وجنسيات أخرى، ومن بينهم عشرات الأطفال والنساء. قبيل وقوع الكارثة، التقطت طائرة يونانية صوراً لمركب الصيد المكتظ، والذي كان على متنه أكثر من 700 مهاجر، من بينهم أطفال ونساء ينتظرون إنقاذهم، لكن البحر ابتلع مركبهم. ليست الصور وحدها ما أثار الجدل، لكنها كشفت بوضوح عن التوافق الأوروبي على "عمليات الصد".
انتقدت منظمات حقوقية أكثر من مرة، سماح الاتحاد الأوروبي لليونان وكرواتيا وإيطاليا، وغيرها، القيام بعمليات صد تتخذ أحياناً طابعاً عنيفاً لمنع وصول طالبي اللجوء إلى الحدود الأوروبية التي تخصص لها الأموال والعتاد والتقنيات من أجل "حمايتها".
يؤكد الباحث في قضايا الهجرة واللجوء، مورتن فيسترغود، لـ"العربي الجديد"، أن "ما جرى عار على أوروبا كلها. منذ عام 2014، فقدنا أكثر من 27 ألف ضحية مسجلة رسمياً، وأعتقد أن الرقم أكبر من ذلك بكثير، فأحياناً لا تطفو الجثث، وأحيانا لا تكتشف المراكب الغارقة".
إلى جانب الصدمة التي يشعر بها من هم على تماس بمسائل الهجرة واللجوء، ترتفع أصوات منظمات غير حكومية معتبرة أن انتهاج سياسات القلعة، وسياسات الهجرة التقييدية تجبر الأشخاص الباحثين عن الأمان أن يتوجهوا إلى أوروبا عبر طرق خطيرة، مما يزيد من حجم الكوارث.
فقد السوري عصام الاتصال بأقارب وأصدقاء في المركب الغارق، لكن صدمته مضاعفة، إذ خاض بنفسه التجربة سابقاً، يقول لـ"العربي الجديد"، إن الفاجعة أعادت إلى ذهنه ذكريات كل الساعات القاسية التي عاشها خلال رحلته إلى إيطاليا في 2014. ويضيف: "لا يفاجئني أن النقاش يدور حول المهربين، وليس عن السياسات المتطرفة ضد اللجوء والهجرة".
بالنسبة للناشطة الدنماركية في الإنقاذ، ماريا سفينسون، فإن "الصدمة يجب ألا تنسي الناس المطالبة بتحقيق معمق، وبمراجعة السياسات الأوروبية الصارمة القائمة منذ 2014، واتفاق إيطاليا قبل سنوات مع حراس شواطئ جنوب المتوسط لكبح مراكب الهجرة، يعني أن مسار وسط وشرق المتوسط يصبح أخطر".
وكشفت مصادر خاصة لـ"العربي الجديد"، أن رحلة المركب الغارق كلفت كل مهاجر نحو 5 آلاف دولار، وأن بعضهم كان هدفهم لم الشمل مع أفراد من أسرهم يقيمون في أوروبا، لكنهم اضطروا إلى هذه الوسيلة بسبب صرامة قوانين لم الشمل التي قد تستغرق موافقاتها سنوات. لكن الأخبار حول من تم إنقاذهم في اليونان لم تفد بنجاة نساء أو أطفال، ما يعني مأساة مضاعفة لمن ينتظر وصول زوجته أو أطفاله عبر المتوسط.
التقطت طائرة خفر السواحل اليوناني صوراً للمركب المكتظ قبل غرقه
اضطر خفر السواحل اليوناني للدفاع عن نفسه بعد الفضيحة التي فجرتها الصور التي التقطتها إحدى طائراته، زاعماً أن "الركاب رفضوا تلقي المساعدة، وأصروا على استمرار الإبحار باتجاه إيطاليا".
بدوره، قال الرئيس التنفيذي للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل "فرونتكس"، هانز ليتينز، إنهم أبلغوا السلطات اليونانية مسبقاً بوجود مركب صيد مكتظ بالمهاجرين قبل غرقه قبالة سواحل شبه جزيرة مورا. وأكدت منظمة "هاتف الإنذار" التي تراقب مراكب اللجوء في البحر المتوسط، أن خفر السواحل اليوناني كان على دراية بأن المركب كان في محنة قبل ساعات من إرسالها المساعدة.
ويستنكر خبراء في القانون الدولي وقوانين البحار ما صدر عن خفر السواحل، قائلين إنه "كان على السلطات اليونانية القيام بإخلاء السفينة بغض النظر عما إذا كان الركاب على متنها يرغبون في ذلك أم لا".
في وقت متأخر من مساء الخميس الماضي، أعلنت السلطات اليونانية اعتقال تسعة ناجين باعتبارهم جزءا من شبكة التهريب، وأن الموقوفين يحملون الجنسية المصرية. ولترسيخ فرضية "شبكة التهريب"، سارع ساسة يونانيون إلى إدانة ما أطلقوا عليه "الشبكات الإجرامية الخسيسة التي تهرب الأشخاص اليائسين"، وهو ما ذهب إليه زعيم حزب الديمقراطية الجديدة، كيرياكوس ميتسوتاكيس، والذي يسعى لإعادة انتخابه رئيسا للوزراء.
ورغم محاولات توجيه الأنظار إلى مهربي البشر، الذين بلا شك يتحملون جزءا من مسؤولية الكارثة، حرص البعض على تحميل الاتحاد الأوروبي مسؤولية تحويل محاولات اللجوء والهجرة إلى مآس، وانتقد هؤلاء بصورة خاصة "القيود الصارمة" التي تفرضها دول الاتحاد على الحدود، وعدم وجود فرص للوصول إلى أوروبا بشكل قانوني.
رحلة المركب الغارق كلفت كل فرد من المهاجرين نحو 5 آلاف دولار
ويتفق الزعماء الأوروبيون على سياسات هجرة تولي اهتماماً بالغاً لصرف الأموال وتخصيص التقنيات لصد عمليات القدوم إلى حدود الاتحاد الأوروبي، وتقاسم المسؤولية بين دوله، وتسريع عمليات دراسة الطلبات، وترحيل المرفوضين، من دون التطرق إلى حلول غير أمنية مع دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، فأغلبية التوجهات الأوروبية في التعامل مع القضية تعتمد على الصفقات والعقود، ودفع الأموال لقيام سلطات دول شمال أفريقيا وشرق المتوسط بمنع وصول المهاجرين واللاجئين عبر المسارات المائية والبرية.
واعتبرت منظمة "أنقذوا الطفولة" أن دول الاتحاد الأوروبي بذلت جهوداً غير عادية لإغلاق جميع الطرق أمام الأطفال وأسرهم من الباحثين عن الأمان، وشددت على أنه "غالبا ما يكون الخيار الوحيد هو الذهاب في رحلات خطرة بالقوارب، والنتيجة الحتمية المتكررة هي مآسي الغرق".
ويعتقد رئيس فرع منظمة الهجرة التابعة للأمم المتحدة في اليونان، جيانلوكا روكو، أن "الوضع القائم يعزز الحاجة الملحة إلى جهد متكامل ومنسق من جانب الدول لإنقاذ الأرواح في البحر، وتقليل عدد الرحلات الخطرة من خلال تعزيز طرق الهجرة الآمنة".
ووجه رئيس الوزراء اليوناني السابق زعيم المعارضة الحالي، أليكسيس تسيبراس، انتقادات حادة للاتحاد الأوروبي خلال زيارة إلى كالاماتا. وقال: "يُظهر هذا الحادث بوضوح عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على تعزيز سياسات منظمة للجوء تضع حياة الإنسان على رأس أولوياتها. السياسة التي تنتهجها أوروبا تتحمل جانباً كبيراً من اللوم. إنها سياسة حولت البحر المتوسط إلى مقبرة".
وتؤكد دراسة أجرتها منظمة Arci Porco Rosso الإيطالية والمجموعة الأوروبية "هاتف الإنذار"، والمنظمة غير الحكومية Borderline Europe، أنه "خلال 10 سنوات فقط، جرى اعتقال 3 آلاف شخص بتهم تهريب البشر على مراكب من جنوب المتوسط"، وحسب المحامية الإيطالية، سينزيا بيكورارو، فإن "عمليات الاعتقال عشوائية، وهؤلاء ليسوا بالضرورة مهربين، بل يجبرون على ركوب المراكب على يد المهربين الحقيقيين لتولي دفة القيادة. المهربون الحقيقيون لا يقومون بالمخاطرة بحياتهم لركوب قوارب الموت".
ويذكر السوري أبو باسل، الذي خاض التجربة، لـ"العربي الجديد"، أن "عملية الاختيار تكون تحت تهديد السلاح، ما يعطي انطباعاً للركاب الذين لم يشاهدوا التهديد بأن من يقود المركب المكتظ جزء من شبكة التهريب".
وفقد الآلاف أرواحهم في البحر المتوسط منذ بدأت السلطات في ضفته الأوروبية، وخصوصاً إيطاليا، التشدد مع سفن الإنقاذ الأوروبية غير الحكومية، بل واعتبار أنشطتها جزءا من جرائم تهريب البشر، ثم عززت تواجدها البحري العسكري بالتعاون مع سلطات جنوب المتوسط لتعقب وإفشال عمليات الإبحار، وهو ما أدى إلى العديد من المآسي في عرض البحر قبالة سواحل ليبيا ومصر وتونس، إلى جانب مآسي غرق مراكب غادرت من لبنان وسورية خلال السنتين الماضيتين.
ولا يعني التراشق بين روما وباريس، كمثال، اختلاف البلدين على انتهاج سياسات متشددة بدلاً من البحث عن حلول، في حين تسعى بلدان أخرى إلى إقامة معسكرات لجوء خارج القارة في مقابل دفع المال، كما هو الحال مع خطة رواندا البريطانية، ومحاولات دول أخرى التوصل إلى صيغ مشابهة مع دول من بينها تونس ومصر.