تجلس الفلسطينية سميرة أبو عصب والدة الشهيد نادر ريان، من مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين شرقي مدينة نابلس، إلى جانب شقيقتها التوأم ليلى، محاولة أن تخفف عنها مصابها باستشهاد نجلها محمد داود (19 سنة)، في 19 أغسطس/آب الجاري، لكنها سرعان ما تنهار هي الأخرى، وتشرع بنوبة بكاء على ابن شقيقتها الشهيد الذي لحق بصديقه، ابنها الشهيد نادر.
يتدخل شقيقهما سلّام أبو عصب ليواسيهما، ويحدثهما عن مكانة ابنيهما نادر ومحمد في الجنة، وأنهما نالا ما كانا يحلمان به، وسيشفعان لهما يوم القيامة. يقول سلام لـ"العربي الجديد": "شقيقتاي توأم، وعلاقتهما متينة إلى أبعد الحدود، وعندما سكنت أم نادر في بيتها الجديد خارج مخيم بلاطة المكتظ قبل عدة سنوات، أصرت أم محمد على اللحاق بها، لتسكن في منزل مجاور لها، ما انعكس على أبنائهما، وخاصة نادر وابن خالته محمد، فهما متقاربان في السن، وكانا يمضيان معظم الوقت معاً، سواء في المدرسة أو بعدها".
مع اندلاع شرارة الأحداث في الضفة الغربية المحتلة، تقدم الفتيان المشهد، وباتا من الوجوه المعروفة في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي والتصدي لاقتحاماته المستمرة، وفي فجر 15 مارس/آذار 2022، أصيب نادر برصاصتين في صدره، ليرتقي على الفور شهيداً، حينها أصيب محمد بفاجعة كبيرة بفقدانه شقيق روحه.
يقول أحد أصدقاء الشهيد محمد، والذي طلب عدم ذكر اسمه، في حديث لـ"العربي الجديد": "كاد محمد أن يفقد عقله يوم استشهاد نادر، فالصدمة كانت كبيرة، لكنه تماسك، ووقف فوق قبره بعد مواراته الثرى، وعاهده على الانتقام له. منذ ذلك اليوم، بات محمد من أبرز مطاردي قوات الاحتلال الإسرائيلي، فأينما يجدهم يباشرهم بإطلاق الرصاص من دون خوف، كان جريئاً ومقداماً، ما جعله في مقدمة المطلوبين للاغتيال أو الاعتقال رغم صغر سنه".
ويروي صديق محمد تفاصيل اللحظات التي سبقت إصابته الخطيرة التي أسفرت عن استشهاده بعدها بثلاثة أيام، قائلاً: "كان بإمكان أبو عصب، وهو اللقب الذي كان يعرف به الشهيد نسباً لعائلة أمه، أن ينسحب من الاشتباك مع قوات الاحتلال قرب حاجز حوارة العسكري جنوب مدينة نابلس فجر الأربعاء 16 أغسطس/آب، لكنه أصر على المواجهة حتى نفدت ذخيرته، فأصيب بسبع رصاصات، خمس منها في صدره، بعد إطلاق قوات الاحتلال النار تجاه مجموعة من المقاومين الذين أطلقوا الرصاص تجاه الحاجز".
ترك الشهيد محمد ينزف لساعات بسبب عرقلة الاحتلال عمل الطواقم الطبية، ثم نقل إلى مستشفى في مدينة نابلس، وخضع لعدة عمليات جراحية، لكنه بقي على أجهزة التنفس الاصطناعي حتى إعلان استشهاده بعد ذلك بثلاثة أيام، وتحديداً السبت 19 أغسطس.
يؤكد سلّام أبو عصب، خال الشهيدين، على كلام صديق الشهيد محمد داود، وأن محمد كان دوماً يقول لأمه وخالته والدة الشهيد نادر، إنه سيلحق به لا محالة، حينها كان الجميع يرجوه ألا يغامر بحياته، لكنه كان مصمماً على مواصلة الطريق، حتى نال ما أراد، وبالفعل تم دفنه إلى جوار صديقه وابن خالته في مقبرة شهداء مخيم بلاطة.
يقول سلام أبو عصب: "لا يوجد من يسأل نفسه عن دوافع الفتية والشباب أمثال الشهيدين نادر ومحمد لحمل السلاح في وجه تلك القوة العسكرية بدلاً من الانخراط في الحياة كأقرانهم في دول أخرى. ألم يكن من حق نادر ومحمد أن يعيشا طفولة آمنة ومرحلة فتوة يستمتعان فيها بالاستعداد للمستقبل؟ ما فعلاه، ويفعله الآلاف من أقرانهما ليس يأساً، أو هروباً من الواقع، بل هو أمر مفروض عليهم، وعلى كافة أبناء الشعب الفلسطيني من جراء الدعم المطلق للاحتلال الإسرائيلي الذي لا يتوقف عن ارتكاب أنواع من الجرائم بشكل مستمر بحق الفلسطينيين".
يصمت الرجل قليلاً، تغلبه الدموع وهو يهم بالحديث عن شقيقتيه، ويقول: "كانت كل واحدة منهما تنتظر اليوم الذي ترى فيه ابنها يكبر، وهي التي وفرت له كل ما تستطيع في ظل غياب الأب، ليأتي جنود محتلون حاقدون ويقتلوهما بدم بارد، ثم يشيد بهم قادتهم على ما ارتكبوا من جرائم، ويتركون الأمهات الفلسطينيات لحسرتهن".