تستغل الجماعات اليمينية المتطرفة في النمسا تفشي كورونا لنشر تشكيكها بالجائحة من ناحية، ولبث خطاب متطرف من ناحية أخرى، بحسب ما يحذر خبراء في فيينا، بعد توالي التظاهرات الاحتجاجية أسبوعاً بعد أسبوع في البلاد.
بينما تشهد مدن أوروبية عدة تنامي التململ الشعبي من الإجراءات الحكومية الخاصة بمكافحة فيروس كورونا الجديد، خصوصاً الإغلاقات المتكررة وبطء عمليات التطعيم، ومن بينها المدن النمساوية، حيث الصدامات بين المحتجين وقوات الشرطة تتكرر في نهاية كلّ أسبوع. ومنذ بداية 2021، حتى 20 مارس/ آذار الجاري قُبض على مئات من المحتجين وغُرّم نحو 7 آلاف محتج، وفقاً للأرقام التي تسوقها الصحافة النمساوية المحلية.
ولا يقتصر الأمر على نشوء حركة شعبوية متشددة في احتجاجها في الشارع، بل من رحم تلك الاحتجاجات. وخلال العامين الماضي والجاري بدأ الخبراء النمساويون يلحظون استغلال قوى اليمين المتطرف الجماهير المستاءة لتعزيز خطابها وأجنداتها السياسية. وتتسع في فيينا نظرية المؤامرة حول النشر المتعمد لفيروس كورونا، وهو أمر ليس بجديد بل مستمر منذ إبريل/ نيسان 2020. ولفتت صحيفة "دير ستاندرد" إلى تزعم طبيب أسنان هذه النظرية، وقد جمع حوله نحو 5 آلاف متابع على "فيسبوك".
وبحسب ما سجل مركز "أرشيف التطرف النمساوي" (غير حكومي)، فإنّ الاحتجاجات المشروعة ضد سياسات الحكومة في تقييد حرية المواطنين "باتت تتخذ منحى مختلفاً في الإيمان بنظرية المؤامرة وبثّ كراهية الأجانب ومعاداة اليهود ومناهضة الحياة البرلمانية". واعتبر برنارد ويدنغر، الباحث في المركز، أنّ النمسا "تشهد محاولة استغلال معسكر اليمين القومي المتطرف احتجاجات الشارع في إطار سياسي أوسع". وأشار في تصريحات صحافية، إلى أنّ القوى اليمينية المتشددة "تشارك في التظاهرات بقصد توزيع الكتيبات والنشرات ورفع لافتات لجذب مزيد من أنصار التطرف اليميني في الشارع". ويلاحظ خبراء التطرف في فيينا أنّ هذه الحركة لم تعد مترددة في بث خطاب الكراهية ضد الأجانب في ظلّ المستشار الأقرب إلى اليمين المحافظ سيباستيان كورتز، ونشاط الأحزاب المتطرفة في البرلمان، على الرغم مما لحق بها من أذى بعد سلسلة فضائح سياسية مستمرة منذ عام ونصف العام. وترى رئيسة "المركز الإقليمي لمكافحة التمييز" في مقاطعة ستيريا (غير حكومي)، دانييلا غرابوفاك، أنّ "البلد يشهد انفجاراً في خطاب الكراهية". ويلاحظ العاملون في مؤسسة خدمة النمساويين للإبلاغ عن الكراهية، المعروفة باسم "بان هايت" (غير حكومية)، أنّ "التطرف السياسي وكراهية الأجانب باتا أكثر وضوحاً على وسائل التواصل الاجتماعي منه على مستوى الشارع". وسجلت المؤسسة، بعد مراجعة نقاشات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي خلال الجائحة، أنّه "خلال 20 عاماً من العمل في مجال مكافحة التمييز والتطرف، لم نشهد مثل هذا الانفجار في خطاب التطرف والكراهية الذي لوحظ خلال فترة الوباء، مع اختلاف واضح بانتقال ذلك الخطاب إلى جماعات متصلبة أكثر وأصغر حجماً في تشكيل نواتها الجاذبة للشباب".
وشهدت فيينا خلال الأشهر الماضية تزايداً في خطاب كراهية المسلمين واليهود على حد سواء. وساهم الهجوم المسلح في فيينا، وقيام السلطات بحملة أمنية استهدفت مساجد وأبناء أقليات مسلمة، في تصدر أخبار الأقليات للصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، باستعراض نمطي واتهامي غير مسبوق في بلد كان مسلموه يعيشون في تسامح، حتى حين حاول الزعيم اليميني المتطرف الراحل يورغ هايدر استغلال معاداة المسلمين لتحقيق شعبية كبيرة في تسعينيات القرن الماضي.
سجلت مؤسسة "بان هايت" نمواً في حجم خطاب الكراهية بنسبة 76 في المائة خلال العام 2020، مقارنة بعام 2019، وخلال الربع الأول من العام الجاري، 2021، تضاعف ذلك الخطاب أربعة أضعاف. ويربط الباحثون بين الإغلاقات والإجراءات الصارمة للجائحة ونسبة 82 في المائة من زيادة التطرف في معاداة الأجانب. الصلة بين الجائحة ونمو التطرف اليميني تحذر منه غرابوفاك بالقول إنّه "استغلال لأرضية خصبة لبث المتطرفين رسائلهم، ونشهد بذلك تواصلاً واندماجاً بين المتطرفين والناس العاديين، فالأخيرون يعتبرون تعبيرهم عن الكراهية عبر الإنترنت نوعاً من التنفيس عن الإحباط من القيود وعواقب أزمة كورونا".
سياسة المستشار الشاب سيباستيان كورتز، اليمينية القومية المحافظة، التي تطلق النار في كلّ الاتجاهات، بما فيها الأوروبية، ومحاولته التنسيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لخلق حلف من زعامات أوروبية متشددة، كالمجر والتشيك وبولندا، لا تجعل مهمة لجم الخطاب المتطرف في الشارع سهلة، على ما يرى هؤلاء المختصون في تصريحات للصحافة النمساوية والأوروبية القلقة من نمو الظاهرة في أكثر من مكان. فعلى مستوى الدولة، والبرلمان الذي يضم يميناً متشدداً، يلاحظ هؤلاء تراخياً في انتهاك جماعات التطرف للحظر النمساوي على الدعاية النازية ومعاداة السامية وكراهية الأجانب والمسلمين، بإضافة نكهة جديدة إلى شيوع الخطاب باستحضار نظرية المؤامرة والأخبار الزائفة، التي تخلط بين "النخبة العالمية"، ومن ضمنها بيل غيتس وسياسيين غربيين، والمستوى الطبي في "اختراع الفيروس للسيطرة على المجتمعات".
خطاب الكراهية على مستوى النمسا عبر الإنترنت سجل في 2020، وفقاً لأرقام مؤسسة "بان هايت"، 3215 حالة، ولم يصل الرقم في 2019 إلّا إلى 1820 حالة، ومع ذلك استمر خلال الأشهر الثلاثة الماضية من العام الجاري، 2021، الخطاب نفسه. وتلاحظ الباحثة غرابوفاك أنّ "المتطرفين في العام الجاري، 2021، أصبحوا أكثر تخفياً على الشبكة، فينشئون مجموعات مغلقة على فيسبوك وعلى قنوات أخرى ليصعب تتبعهم، فهم يعلمون أنّهم مراقبون ويتخذون لذلك الإجراءات كي لا يُكشفوا".
أكثر النظريات انتشاراً بين اليمين المتطرف في النمسا، في ما خص تحديداً جائحة كورونا، تلك التي تشيع أنّ "المؤامرة تقف وراءها شبكة عالمية من قادة الجاليات اليهودية الممولة للتكنولوجيا والإعلام، بابتكار أكاذيب عن الوباء لإثراء نفسها بدفع الاقتصاد العالمي نحو الانهيار لتقريب الحكومة العالمية خطوة إضافية نحو حكم العالم". ويسوّق المعسكر اليميني المتشدد نفسه في الشارع على أنّه "ضحية السلطات الفاشية الأوروبية المتعاونة مع اليهود المتنفذين". وتذكر غرابوفاك أنّها "في إحدى تظاهرات ذلك المعسكر قابلت سيدة متشددة، راحت تشتم الحكومات على أنّها فاشية وتعتبر نفسها ضحية هولوكوست". ولا يختلف تفكير شارع متذمر في كوبنهاغن وبرلين وغيرهما عن الشارع النمساوي، إذ يصب المحتجون جام غضبهم على السلطات السياسية، ويستعرضون أنفسهم، دوناً عن بقية المجتمع الذي يعاني من الظروف نفسها، كضحايا "فاشية وديكتاتورية الحكومات"، بل بات البعض يرفع صوته الآن، بعد التوصل إلى لقاحات، باتجاه السير خطوة إضافية للتحذير من اللقاح وحثّ الناس على عدم قبول التطعيم باعتباره أيضاً مؤامرة. وتغذي الأخبار المضللة خيال أنصار هذا المعسكر في اتهام المسلمين، وعموم مهاجري العالم الثالث، بالمسؤولية عن نشر الوباء، وهو ما يحصد لمروجي هذه الإشاعات، وهم من أحزاب اليمين القومي المحافظ التقليدي في برلمانات كوبنهاغن وبرلين وباريس وفيينا، شعبية تستند بشكل غير مباشر إلى حركة التذمر المتطرفة في الشارع. ويرفع بعض البرلمانيين، كما تفعل سياسية دنماركية مغمورة اسمها بيرنيلا فيرموند، اتهامات للمسلمين، وفي الوقت نفسه، تحرض الشارع على "مقاومة سلطة الدولة" التي هي من مشرّعي سياساتها.
إلى ذلك، يعترف المتحدث باسم المحكمة الإقليمية في النمسا كريستيان ليبهاوزر كارل، بحسب تقرير للتلفزيون النمساوي "أو آر إف"، بارتفاع حاد في نشاط المتطرفين والجرائم التي يحظرها قانون منع نشاط "الحركة الاشتراكية الوطنية" النازية، بسبب ماضي البلاد في الفترة النازية. وذكر التقرير التلفزيوني، في وقت سابق من الشهر الجاري، استناداً إلى أرقام "أرشيف جرائم اليمين المتطرف"، أنّ أقل من 10 في المائة من السكان في النمسا هم من العنصريين اليمينيين المتطرفين، وحصة النازيين بينهم تراوح بين 1.5 و3 في المائة. وعلى الرغم من ذلك، يؤكد المختصون في اتجاهات الشارع النمساوي أنّ "العنصرية أضحت ظاهرة في يوميات البلاد"، بحسب ما يؤكد الباحث في أرشيف التطرف أندرياس بيهام، الذي يتابع أنّه "في هذه البيئة من العنصرية اليومية، يقوم المتطرفون اليمينيون أيضاً بتجنيد الناس وصيدهم، إذا جاز التعبير".