تطبيقات "داعش" تمتحن العقل الفقهي وتستفزه للمراجعة

22 أكتوبر 2015
تطبيقات "داعش" تمتحن العقل الفقهي (مواقع التواصل)
+ الخط -
بات من مألوف الجدل الإسلامي ومساجلاته الساخنة في الآونة الأخيرة، مقابلة تطبيقات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للأحكام الشرعية في المناطق التي يسيطر عليها، باعتراضات علمية وفقهية واسعة، وموجات سخط شعبية عارمة، ما يدفع شرعيي التنظيم إلى استدعاء أقوال المذاهب الفقهية لإثبات صواب تطبيقاتهم وشرعيتها.


غالباً ما يتمسك شرعيو التنظيم في مرافعاتهم الحجاجية، بما هو مقرر في المدونات الفقهية القديمة، والتي يستخرجون منها في كل مرة أدلة فقهية تسّوغ تطبيقاتهم في أوساط أتباعهم وأنصارهم من جهة، ويُقذف بها في وجوه معارضيهم من جهة أخرى.

فما مدى مطابقة استدلالات شرعيي التنظيم المصوبة لممارساتهم، للمقرر في مدونات الفقه الإسلامي القديمة؟ وكيف يمكن اختبار صدقية التنظيم في استدعائه لأقوال المذاهب الفقهية من مظانها القديمة، لتسّويغ تطبيقاته والدفاع عنها؟

قد تستدعي الإجابة الدقيقة عن هذين السؤالين إجراء بحث تفصيلي، تجري فيه مقارنة جميع تطبيقات التنظيم للأحكام الشرعية في المناطق التي يبسط سلطته عليها بأحكام المذاهب الفقهية المدونة، ومن ثم اختبار مدى تطابقها وتوافقها مع تلك الأحكام.

لكن دعونا نفحص ونختبر مدى انسجام استدلالات التنظيم في تطبيقاته مع منظومة المذاهب الفقهية المتسالم عليها عند أهل السنة جميعهم، باستعراط تفاصيل وأدلة نموذجين لحكمين فقهيين قام التنظيم بتطبيقها، والتي قوبلت باعتراضات فقهية شديدة من علماء ودعاة ومؤسسات وهيئات دينية مختلفة.

فما هي الأدلة التي استند إليها التنظيم في قراراته المتكررة القاضية بقتل "مخالفيه" بوصفهم مرتدين يجب قتلهم؟ وبماذا احتج في قراره الملزم للنصارى الذين يعيشون تحت سلطته بدفع الجزية؟ وهل أدلته وحججه موافقة للمجمع عليه في المراجع الفقهية المعتبرة أم مخالفة لها، وأجنبية عنها؟

بات من ممارسات تنظيم الدولة الشائعة تسويغه لقتل مخالفيه، باعتبارهم مرتدين يجب قتلهم، فهل تسويغه لقتلهم بتهمة الردة موافق للأحكام الشرعية المتعلقة بقتل المرتد في المدونات الفقهية القديمة أم مخالف لها؟ وما هو حكم المرتد عند المذاهب الفقهية المعروفة؟ يقول الإمام النووي (الشافعي): "وقد انعقد الإجماع على قتل المرتد"، ويقول ابن قدامة (الحنبلي) "وأجمع أهل العلم على قتل المرتدين".

فهل يستطيع عالم من علماء الأمة المعاصرين أن يناقش في ثبوت هذا الحكم وانعقاد الإجماع عليه؟ ومن يقوى منهم على مخالفة ما انعقد الإجماع عليه؟ من الوارد أن يقع الاختلاف حول مدى صحة إلحاق وصف الردة بأعيان المسلمين، ومتى ينطبق هذا الوصف على فلان من عدمه، ومن هي الجهة المخولة بإصدار مثل هذه الأحكام وتطبيقها؟  لكن ثبوت حكم قتل المرتد أمر محل إجماع عند المذاهب الفقهية المعتبرة.

وبخصوص فرض التنظيم للجزية على مسيحيي سورية والعراق، ما الذي أثار العلماء والفقهاء في تطبيق التنظيم له؟ وهل فارق التنظيم بذلك ما هو منصوص عليه في المراجع الفقهية التي يرجعون إليها لمعرفة الأحكام الشرعية ودراستها؟ أليس حكم أخذ الجزية من الأحكام الشرعية المقررة والتي هي محل إجماع عند سائر المذاهب الفقهية؟

يقول ابن قدامة المقدسي: "مسألة ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا". ويقول في موضع آخر "وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة"، ويقول ابن القيم: "أجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس".

فما دام أن أخذ الجزية حكم شرعي ثابت ومقرر، فما الذي حمل العلماء والفقهاء على استنكار تطبيق الدولة له؟ هل يرون مثلاً أن تنظيم الدولة أخطأ في تطبيقه للحكم لأن أخذ الجزية حكم خاص بالمقاتلين من أهل الكتاب ولا ينطبق على عموم أهل الكتاب الذين يعيشون في بلاد المسلمين؟

وهل اعتراضهم عليه جاء من جهة وكيفية تطبيقه مع تسليمهم بثبوته ومشروعيته؟ وهل هالهم حجم الاعتراضات والاستنكارات المحلية والإقليمية والدولية لمثل هذا اللون من القرارات والممارسات الصادمة للأعراف السائدة والدارجة في مجتمعاتنا المعاصرة، ما حملهم على استنكاره ورفضه؟

وما معنى استنكار الفقهاء والعلماء لقرار التنظيم بإلزام مسيحيي الرقة وحمص والموصل.. بمقدار معين من الجزية ما دام أنهم يقرون بمشروعية الحكم؟ وهل لو قدر لأي حركة إسلامية تدعو إلى تطبيق الشريعة الوصول إلى الحكم وبسط سلطانها على البلاد أن تتوانى عن تطبيق تلك الأحكام التي طبقها تنظيم الدولة الإسلامية، كقتل المرتد، وأخذ الجزية من نصارى بلادهم، وغيرها من الأحكام الشرعية الأخرى؟

تجربة تنظيم الدولة الإسلامية في تطبيق الأحكام (المثيرة للجدل) تمتحن العقل الفقهي، وتضع الفقهاء أمام تحديات من لون جديد، فهل تدفعهم (تخبطات ومغامرات) التنظيم في تطبيقات حكم المرتد مثلا، لإعادة النظر في تأصيل الحكم من جديد، كما فعل الفقيه والأصولي العراقي الدكتور طه جابر العلواني، في كتابه (إشكالية الردة والمرتدين) بنقله للقضية من دائرة الحدود الشرعية الثابتة إلى حقل التدابير السياسية المتغيرة والمنوط تقديرها بولي الأمر؟

وهل تدفعهم تجربة تنظيم الدولة في تطبيق أحكام الجزية وفرضها على النصارى، إلى إعادة قراءة تلك الأحكام قراءة مصلحية محكومة بزمنيتها المقيدة بظروفها التاريخية يوم أن كانت الجزية تدفع كعوض عن الحماية أما في زمن المواطنة وتساوي المواطنين أمام القانون فلماذا يُلزم المواطن (المسيحي) بدفع الجزية وهو يقوم بواجب حماية البلاد كباقي المواطنين بصرف النظر عن دينهم ومعتقداتهم؟

وهل يدفعهم تشبث تنظيم الدولة بولاية المتغلب لشرعنة "خلافة البغدادي" إلى إعلان موقفهم الشرعي الصريح القاضي ببطلان ولاية المتغلب وعدم شرعيتها، واعتبار ما قاله الفقهاء المتقدمون بشأنها في الأحكام السلطانية محكوم بتاريختيه الزمانية، من غير أن تثبت له صفة الأحكام الشرعية المطلقة؟

يبدو أن القضية ليست متعلقة بنمطية تطبيقات تنظيم الدولة الإسلامية بصفة خاصة، بقدر تعلقها وارتباطها بنسق التدين الداعي إلى تطبيق الشريعة على الفور، فكل حركة إسلامية تنتمي إلى ذلك النسق من التدين، إذا ما قُدر لها الوصول إلى الحكم، ستجد نفسها تحت ضغط قواعدها مجبرة على الشروع في تطبيق الأحكام الشرعية بحسب المقرر في مدونات الفقه القديم، لأنها إن لم تسارع إلى ذلك فإنها ستفقد صفة إسلاميتها، وبالتالي مبررات وجودها وقيامها.

(الأردن)
دلالات
المساهمون