مع اقتراب شهر رمضان وتراجع المداخيل وزيادة عدد الفقراء، بسبب إغلاقات وباء كورونا، بدأت في تركيا حملات شراء دفاتر الذمم (قوائم الديون) من المحال التجارية والبقالات، لتسديد ديون الفقراء وأصحاب المداخيل المحدودة، في إحياء لعادة عثمانية ما زالت مستمرة حتى اليوم. هذه العادة تتزايد قبل شهر الصوم، وتتحول إلى مبادرات بأشكال أخرى، من شراء الغذاء واللحوم والملابس، قبل عيدي الفطر والأضحى.
يقول رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة "ابن خلدون" في إسطنبول، رجب شان تورك، إنّ عادة شراء دفاتر الذمم متأصلة في تركيا منذ الخلافة العثمانية، وإن تراجعت قليلاً خلال الدولة التركية، وتتفاوت بناء على طبيعة الحكم أو الحضّ على مساعدة الفقراء، سواء عبر رئاسة الشؤون الدينية والتي عادة ما تقود هذه الحملات أو تحضّ عليها، أو من خلال الجمعيات غير الحكومية التي تدعو إلى مساعدة الفقراء، خلال شهر الصوم وقبله على وجه التحديد. يضيف لـ"العربي الجديد" أنّه "بمثل هذه المبادرات تزيد اللُحمة في المجتمع، ويتعزز الشعور بالآخرين، وهي عادة شرقية إن لم نقل إسلامية، وقد تعززت، بالإضافة إلى عادات كثيرة، خلال العقدين الأخيرين في تركيا".
وحول استهداف دفتر الذمم خصوصاً، يضيف شان تورك: "ربما ليس هناك أكثر حاجة ممن يستدين ثمن غذائه، كما أنّ الدولة والمنظمات تتكفل بطرق مساعدة أخرى، خصوصاً خلال الأزمات، كالتي يمرّ بها العالم خلال العام الأخير، بسبب تراجع العمل والدخل، لكنّ المحال التجارية الصغيرة والبقالات، قلّما يلتفت إليها أحد، لافتاً إلى أنّ دفاتر الذمم تشترى من المحال البسيطة التي تبيع مواد غذائية ولا يتم التوجه إلى محال الملابس والعطور مثلاً".
وأطلق، قبل أيام، موظفون برئاسة الشؤون الدينية في ولاية سيواس، وسط تركيا، مبادرة لتسديد ديون الأسر الفقيرة، المسجلة في دفاتر محال البقالة ولدى الباعة، متبعين في ذلك تقليداً عثمانياً تضامنياً يُعرف باسم "دفتر الذمم". وبحسب مصادر إعلامية، حددت هيئة الإفتاء في الولاية حياً واحداً كلّ شهر، يجري رصد الديون وقبول التبرعات بخصوصه، ثم يجتمع موظفو الشؤون الدينية في الولاية ويسددون ديون الأسر الفقيرة المسجلة لدى محال البقالة والبائعين.
ويقول منسق المشروع ومسؤول الخدمات الدينية في هيئة الإفتاء بسيواس، رجب دوغان، إنّ المشروع يعد إحياء لتقليد عثماني كان يتم تطبيقه دائماً في الأماكن التي يكثر فيها المحتاجون، من دون إحراجهم، ومن دون أن يعرفوا من الذي ساعدهم، مشيراً في تصريحات صحافية إلى أنّ المشروع يُطبق لأول مرة بين موظفي الشؤون الدينية، وبتنسيق من هيئة الإفتاء ودعم ولاية سيواس. يتابع دوغان أنّهم يتواصلون في إطار المشروع مع أصحاب محال البقالة والبائعين في الأحياء، بالإضافة إلى مختار كلّ حيّ، لتحديد الأشخاص أو العائلات التي تعاني من مشاكل مادية، ويختارون متجراً كلّ شهر، ويسددون ديون الأشخاص المحتاجين في دفتر الديون الخاص بالمحلّ، لافتاً إلى أنّهم نفذوا المبادرة في 8 أحياء حتى اليوم، وأنّ الأهالي رحبوا بها كثيراً.
وكانت ولايات تركية عدة قد أطلقت حملات شراء دفتر الديون من المحال التجارية والبقالات، وسداد جميع الديون التي فيها نيابة عن المدينين، في خطوة لإحياء التقليد العثماني، منها ولاية غازي عينتاب التي تؤوي نحو 450 ألف سوري، بحسب ما تقول التربوية السورية إسراء جواد لـ"العربي الجديد". وتضيف جواد أنّ المبادرة في الولاية لم تتوقف منذ إطلاقها العام الماضي، بإشراف الوالي داوود غل، ووزارة الداخلية التركية، لأنّ عام 2020 شهد زيادة في عدد الفقراء، وارتفاعاً في ديون المحتاجين من المحال والبقالات. وحول ما إذا كانت الحملات تستهدف السوريين، تؤكد التربوية السورية، أنّ شراء الذمم يتم من دون سؤال من هو المدين، وبحكم أنّ وضع السوريين في الولاية يكاد يكون الأسوأ، لذلك، فالتوقعات أنّهم الشريحة الأكثر استفادة من إيفاء الديون، مشيرة في الوقت نفسه، إلى أنّ وضع كثير من السوريين هذا العام صعب جداً. وكما أنّ هناك فاعلي خير، ففي المقابل هناك كثيرون يلاحقون السوريين إن تأخروا في سداد إيجار المنزل وفواتير الطاقة.
ومن حيّ باغجولار، الموصوف من الأحياء الفقيرة في إسطنبول، يقول السوري العامل في مشغل خياطة، حسين جنيد، لـ"العربي الجديد": "العام الماضي جرى تسديد جميع الديون المترتبة عليّ للبقالة المجاورة لمنزلي، وكان المبلغ نحو 650 ليرة تركية (87 دولاراً)" مشيراً إلى أنّ المحال التركية قلّما تبيع السوريين بالدين، إلاّ في حال كانت تعرف الشخص وظروفه الصعبة.
من جهته، يقول أنس بهلوان، مدير أحد المطاعم، في حيّ الفاتح بإسطنبول: "نقدم الخبز والشطائر للمحتاجين السوريين بالمجان، لكن لا يوجد لدى السوريين عادة شراء دفتر الذمم". يكشف عن طرق أخرى للمساعدة: "المطعم يتكفل بتدريس عشرة طلاب سوريين هذا العام وكان العدد 60 طالباً قبل عامين، لكنّ وباء كورونا ألحق الخسائر بسلسلة فروعنا، ولم يبق على قيد العمل هذا العام سوى أربعة منها".