لا يقتصر حلم تركيا، خلال مئوية تأسيس الجمهورية العام الجاري، على دخول نادي العشرة الكبار اقتصادياً، بل ثمة أهداف علمية وثقافية وحتى عسكرية، وأخرى مرتبطة بأحلام اقتصادية، فالرئيس رجب طيب أردوغان الذي يعد بتركيا جديدة عبر تأسيس الجمهورية الثانية بعد أشهر، يتمسك بتنفيذ تنمية أفقية ومستدامة في البلاد تواصل دعم الإنسان باعتباره وسيلة إطلاق التنمية المنشودة وانجاحها لجعل أحلام الوطن أكبر وأكبر.
وخلال افتتاحه مكتبة "رامي" بإسطنبول قبل أيام، أكد أردوغان اقتراب تحقيق وعوده بتدشين مائة مكتبة جديدة بحلول الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
وليست "رامي" مجرد مكتبة، بل مجمع ثقافي متكامل سيستضيف بحسب الرئيس التركي فعّاليات واحتفالات، علماً أن الدور الثقافي للمكتبة سيرتبط أيضاً باحتوائها أكثر من مليوني كتاب، وتوفيرها خدمات على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع.
ويؤكد الأكاديمي التركي أوزجان أويصال لـ"العربي الجديد" أن "اختيار مكان ثكنة عسكرية أدار منها السلطان محمود الثاني معركة بين العثمانيين والروس عام 1828 لم يكن وليد الصدفة، فثمة رسالة إنسانية ترتبط بهذا الخيار، باعتبار أن استبدال مكان ثكنة عسكرية مشيّدة منذ 250 سنة بصرح ثقافي يشير إلى تبدل في ذهنية سلطات البلاد بقيادة حزب العدالة والتنمية، والتمسك بفكرة التوجه إلى سلاح المعرفة بدلاً من المدفع".
ويلفت إلى أن "مكان الثكنة استخدم كسوق للأغذية طوال سنوات، لكن المشروع الثقافي لحزب العدالة والتنمية لحظ منح المكان أهمية ورمزية، ما دفع مسؤوليه إلى العمل سنوات لتحويل المكان إلى مكتبة تفتح أبوابها لرواد الثقافة والمعرفة كل أيام الأسبوع، وتحاكي مكتبة الأمة في المجمع الرئاسي بأنقرة على صعيد المساحة والخدمات الثقافية".
وقد أقيمت مكتبة "رامي" على مساحة 110 آلاف متر مربع، وتتسع لنحو 4200 شخص في نفس الوقت، ما يعكس حقيقة أن الهدف أبعد من مكتبة وقراءة لتأخذ دور الصرح الثقافي الذي تقام فيه احتفالات وتجمعات كبيرة. وتستخدم المكتبة أجهزة عرض وتقنيات حديثة جداً، وتضم بحسب الخطة التركية الموضوعة كتباً إلكترونية وليس ورقية فقط. ويمكن القول إن زيادة عدد الكتب في المكتبات التركية بنسبة 6.8 في المائة وصولاً إلى 98.2 مليون توحي بأن استهداف الشباب وجذبهم تشكل الغاية الأساس من المشروع".
ويحدد مكتب الإحصاء عدد المكتبات في تركيا بـ33.978، أكبرها المكتبة الوطنية في أنقرة، إضافة إلى 1213 مكتبة عامة، و606 مكتبة جامعية، و32.158 مكتبة تعليمية رسمية وغير رسمية.
وتضم المكتبة الوطنية 125.925 عضواً، والمكتبات العامة 4.437.954 عضواً، والمكتبات الجامعية 3.560.694 عضواً.
وبحسب معهد الاحصاء التركي زاد عدد المكتبات العامة بنسبة 2.6 في المائة خلال السنوات الأخيرة، وهو يؤكد عودة رواد المكتبات بعد عامي كورونا والحظر وصولاً إلى 12.9 مليوناً العام الماضي، لكن رئيس قسم الطلاب الأجانب في جامعة استينيا، اسماعيل شيفتشي، يرى أن مكتبة "رامي" ستشكل حالة خاصة أخرى، ويقول لـ"العربي الجديد": "إذا لم نركز على أبعاد موقع مكتبة رامي استناداً إلى رمزيته التاريخية، كونه كان ثكنة أسسها السلطان مصطفى الثالث عام 1757، وجرى تجديدها أيام السلطان محمود الثاني عام 1808، وبقيت ثكنة عسكرية حتى عام 1971 قبل أن تتحول إلى مركز لتوزيع الأغذية وسوق منتجات، يجب أن نشير إلى أهمية المساحة الهائلة المخصصة للمكتبة وباقي المرافق، وكذلك المساحة الخضراء فيها التي تبلغ 51 ألف متراً مربعاً".
يضيف: "صُممت مكتبة رامي في شكل مماثل لحرم جامعي لكن بطريقة أكثر حداثة وعلى امتداد مساحة أكبر، وهي تتضمن إلى قاعات المطالعة والقراءة، مناطق لتنظيم أنشطة ومساحات لعقد ورش عمل ومركز خدمة مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة، وقاعات متنوعة للاستخدام في إجراء محادثات وندوات ومعارض، وحتى تظاهرات وطنية كبيرة".
مكتبة الأمة
وعموماً تبقى مكتبة الأمة التابعة للرئاسة التركية في أنقرة، والتي افتتحت في فبراير/ شباط 2020، الأكبر والأهم في البلاد على صعيد المساحة البالغة 125 ألف متر مربع، علماً أنها تتسع لـ5500 شخص، وتعتبر تحفة معمارية وصرحاً ثرياً بالمعرفة بسبب احتوائها على مليوني كتاب مطبوع ونحو مليوني دورية لـ 12 ألف مجلة مطبوعة. كما تضم 56 قاعدة بيانات متاحة للزوار تتضمن 550 ألف كتاب إلكتروني، و6 ملايين و500 ألف أطروحة إلكترونية، و120 مليون مقالة وتقرير لـ 60 ألف مجلة إلكترونية.
مكتبة عمال التنظيف
وتظل الأكثر غرابة بين مكتبات تركيا تلك التي أقامها عام 2018 عمال تنظيف في منطقة "تشانكايا" بالعاصمة أنقرة، وذلك في مكان وجود معمل لصنع الحجارة، وأطلقوا عليها اسم "نورم-ألطاش العمالية".
وجعل عُمال التنظيف معمل الحجارة المهجور منذ 20 عاماً مكتبة تضم اليوم 12 ألف كتاب، بعد توسيعها عبر جمع كتب من الشوارع وحاويات القمامة. وهم أطلقوا الفكرة حين كان يسترخون في المكان المهجور، ويقرأون كتباً يجمعونها من سلال المهملات والحاويات والشوارع، وطوروها إلى تشييد مكتبة لإعارة الكتب إلى رواد سجون ومراكز صحية وطلاب لمدة 15 يوماً، مع ابقاء الخدمة للجميع على مدار الأسبوع.
ويصف المشرف على هذه المكتبة أمير علي أرتيكين المحتويات التي تضمها بأنها "كنوز انتشلت من قمامة، وهذه الكنوز ليست كتباً ومجلات فقط، بل أيضاً معدات طباعة وآلات كاتبة منحناها حياة جديدة وباتت متاحة مجاناً".
وطوّر 700 عامل قمامة في بلدية شانكايا الفكرة عبر افتتاح، إلى جانب المكتبة، صالون حلاقة ومقصفاً وأماكن للراحة ومكاتب للإداريين، لتغدو هذه المكتبة أغرب ملتقى ثقافي وترفيهي، ليس في تركيا فقط، بل ربما في العالم.