بلجيكا: اعتذار على قتل 10 ملايين في الكونغو.. ومطالب بالتعويض واستعادة الكنوز والآثار المنهوبة
بعد سنوات طويلة من السجال حول الإرث الاستعماري الثقيل للمجتمع البلجيكي، واحتجاجات ومطالب اعتذار واستعادة كنوز وآثار وتعويض مالي، خطت بروكسل، التي تعتبر العاصمة المقر للاتحاد الأوروبي، خطوة إضافية نحو شعب جمهورية الكونغو الديمقراطية، في مساعٍ لمحو فظائع الاستعمار والمذابح التي راح ضحيتها 10 ملايين شخص.
الملك فيليب، وهو سليل الملك ليوبولد الثاني الذي حكم في القرن التاسع عشر، وصل في 9 يونيو/ حزيران الجاري إلى الكونغو، في أول زيارة لها بعد أكثر من 60 عاماً على استقلالها.
مذابح وفظائع
في ذاكرة الكونغوليين الكثير من الندوب، كعموم الأفارقة الذين عاشت مجتمعاتهم حملات استعمارية غربية بحجج "طرق تجارية"، وبعضها فرضت فيه أنظمة فصل عنصري، كجنوب أفريقيا حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، بنظام استيطاني بجلب مهاجرين بيضاً ليتحكموا بالسكان الأصليين.
بقي الحكم البلجيكي الأبيض مستعمراً للكونغو حتى الاستقلال في عام 1960. وتلك الفظائع لم تكن بمعزل عن معرفة وتشجيع ملكها الأسبق ليبولد الثاني (1865-1909)، الذي وصفه الكاتب الأميركي مارك توين بأنه "الملك الذي مات وفي ضميره 10 ملايين ضحية". فمنذ 1885 اعتبرت أرض الكونغو وما عليها "ملكاً للملك". ومنذ 1905 ملكاً للدولة البلجيكية.
المذابح وفظائع تقطيع أذرع الناس والأعضاء التناسلية، بحجة أنهم لم يفوا بحصتهم من العمل في الحقول والمزارع، إلى جانب الزج بالكونغوليين في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، كما فعلت القوى التي كانت تستعمر المجتمعات، هو ما رسخ لدى أحفاد الضحايا حتى اليوم.
تمييز وعنصرية
في المجتمع البلجيكي يعيش منذ عقود عشرات آلاف أبناء المستعمرة السابقة، مثلما هو الحال مع المستعمرات الفرنسية والإنكليزية من القارة وغيرها، وهؤلاء واجهوا ويواجهون حتى بعد انقضاء الفترة الاستعمارية الأوروبية تمييزا صارخا. ودفع ذلك إلى نشوء حركات ومطالب بالاعتذار والتعويض، وباستعادة القارة الأفريقية لإرثها وكنوزها التي تتهم الدول الأوروبية بنهبها ونقلها إلى متاحفها وقصور حكامها.
وشهدت شوارع مختلف مدن أوروبا أنشطة وتظاهرات احتجاجية، بعد قتل الشرطة الأميركية في مايو/أيار 2020 المواطن الأسود جورج فلويد، ما أعطى دفعة قوية للمناهضين للعنصرية، والمطالبين بمراجعة المجتمعات الغربية لتاريخها وثقافتها الاستعمارية.
وتعرض في بلجيكا نصب الملك ليبولد إلى إطاحة، ومطالب بإزالته ورموز استعمارية أخرى حول القارة، ارتبط اسمها بتجارة العبيد ودموية الاستعمار.
ومنذ أن حصلت على الاستقلال عام 1960 ظل غضب مجتمع الكونغو مستمرا. وتصاعد بعد عام من ذلك، إثر اغتيال زعيم استقلالهم الوطني، باتريس لومومبا، ووجهت الاتهامات إلى بلجيكا وأميركا بالوقوف وراء قتله خوفاً على نبشه التاريخ الاستعماري في كل القارة الأفريقية. وشهدت كنساشا للمرة الأولى (1961) إطاحة تمثال لرأس الملك ليوبولد على يد طالب كونغولي، لتبدأ مسيرة طلب الاعتذار الرسمي والتعويض.
الدفعة القوية التي حصلت عليها حركة "حياة السود" مهمة بعد حادثة فلويد في 2020 أعادت مجددا الحياة لحركات المجتمع المدني والحقوقية، في أوروبا وأفريقيا، للمطالبة بنبش التاريخ الاستعماري الأوروبي.
ورغم أن فرنسا تبدي على سبيل المثال تصلباً حيال تاريخها الاستعماري في الجزائر، وترفض الاعتذار وتحمل المسؤولية الرسمية، ما يشكل مصدر توتر شبه دائم في علاقة الطرفين، فإن ملك بلجيكا الحالي، فيليب ليوبولد لويس ماري، رأى أنه لا مفر من الرضوخ للأمر الواقع.
إعادة كنوز منهوبة
أعيدت للكونغو الأربعاء الماضي بعض كنوزها التي نهبت، كإشارة على حسن نوايا الملك فيليب في الاستجابة لمطالب شعب البلد الذي أطلق عليه سابقاً "الكونغو البلجيكية" (الكونغو الديمقراطية يبلغ عدد سكانها اليوم 90 مليوناً). لكن ذلك لا يبدو نهاية المطالب.
فمثلما كان البلد الفقير اليوم محط أنظار المستعمرين في الحقبة الاستعمارية (وتقسيم أفريقيا بينهم)، وخصوصا غناه بالاحتياطات النفطية والموارد الطبيعية والخام، فإن زيارة الملك الحالي للكونغو، وإلقاء كلمة أمام برلمانها والتي شملت الاعتذار، لم تخل أيضا من رغبات استفادة الشركات البلجيكية من الموارد الطبيعية فيها.
اعتبر فيليب أن "الحكم الاستعماري قام على الاستغلال والسيطرة وأنها فترة اتسمت بالأبوية والتمييز والعنصرية، وبالتالي أدى ذلك كله إلى الوحشية والإذلال".
مطالبات بالتعويض
تقديم التعازي والاعتذار من الملك فيليب لا يعني بالنسبة للشعب والمعارضة أن الأمور انتهت. فرغم ترحيب الحكومة يبقى المجتمع يعيش ندوب الماضي وتوارث فظائعه مطالباً بمزيد من الخطوات، وهو ما تنشط لأجله مؤسسات ومنظمات في أوروبا.
وطالب عضو البرلمان الكونغولي، السيناتور فرانسين مويومبا، بمزيد من الخطوات، "فلا يكفي الأسف إطلاقاً، نحن نتوقع اعتذاراً ووعوداً بتعويض مالي للمجتمع عن الحقبة الاستعمارية، حتى نقول إننا نبدأ فصلاً جديداً"، وفقاً لما نقلت صحيفة لي سوير البلجيكية.
في كل الأحوال، لا يثق الناشطون والمعارضون في الكونغو، وفي مختلف منظمات تعمل في أوروبا لاستعادة كنوز القارة إلى موطنها، بالسلطات الاستعمارية القديمة. وهي تتهمها بانتهاج سياسات دعم الفاسدين في أفريقيا، وخلق مشكلات ونزاعات بين دول القارة وشعوبها. فرغم أن البلد يعتبر من أغنى بلدان القارة السمراء، من النفط إلى اليورانيوم والماس، فإن النسبة العظمى من الـ90 مليون نسمة يعيشون في ظروف فقر، بل وفي عز جائحة كورونا في 2020 كان شبح الجوع يطل برأسه في البلد الثري الذي حُكم لسنوات طويلة بسياسيين فاسدين، بحسب التصنيفات المحلية والدولية.
وتعتبر جمهورية الكونغو الديمقراطية من البلدان الضخمة في القارة الأفريقية، والتي لا تقل مساحتها عن غرب أوروبا إلا بقليل. ومنذ أن قرر ملك بلجيكا، ليوبولد الثاني في 1876 منح تجار بلده تمويلاً ودعماً لرحلة استكشاف الطرق التجارية تقاطر إلى المنطقة، تحت حجج التجارة، باشر أوروبيون بنهب البلد وثرواته، وارتكبوا جرائم بحق السود، غير آبهين بنساء وأطفال، بعد حرق مساكنهم البسيطة وسوق القادرين على العمل للعبودية. وذلك على الأقل جزء من الإرث الذي تطالب أغلب دول القارة الأفريقية باعتراف المستعمرين به الذين جاءوا يحددون حدود دولهم ويستعبدون شعوبهم وينهبون كنوزهم وإرثهم الثقافي المنتشر في متاحف غربية.