للمرة الأولى في تاريخ البشرية الحديث يواجه العالم جائحة كالتي عاشتها الكرة الأرضية بدولها كافة تقريباً. في المجتمعات القديمة وعندما تنتشر الأوبئة كانت تبيد أحياناً مدينة أو منطقة محددة، بفعل العزلة وصعوبة المواصلات وتعذرها. هناك تاريخ مكتوب للأمراض يؤرخ ما أصاب منها مدن ودول أوروبا. وكذلك الكثير من إلإشارات في أعمال المؤرخين العرب لنوازل أصابت هذه المدينة أو تلك الناحية، أو هذا الجيش وذاك ففتكت بها وبه.
الآن ورغم التقدم العلمي المهول عاش العالم إلى الآن تحت وطأة الوباء قرابة عام كامل شُلّت فيه الحياة تقريباً. المدن أقفرت، معالم الحياة تعطلت، المصانع توقفت، المزارع يبست، التجارة بارت، الموظفون عملوا عن بُعد، العمال انقطعوا عن كدحهم اليومي، المطارات ورحلات الطيران أحجمت عن التواصل وربط الكوكب ببعضه، البواخر علقت في الموانئ، وحُجرت الناس في بيوتها أو مستقراتها. كثيرون تقطعت بهم السبل وآخرون انتظروا أشهر طويلة للعودة إلى بيوتهم. ما يعنينا هو قطاع التعليم وهو ما سنسلط عليه الضوء. والتعليم ليس قطاعاً كباقي القطاعات والأنشطة البشرية، ليس فقط لأنه طريق المستقبل، بل لأنه يمس مباشرة كل الناس تقريباً. الآباء والأمهات الذين يتحدد مصيرهم المهني بما راكموه من معارف، وما يمكن متابعته من مستجدات، والأبناء الذين يطمحون لبناء غدهم، والأطفال الذين كانوا حتى الأمس يرتادون المدارس ودور الحضانة ويخمنون ما سيصيرون عليه.
والتعليم لا يعني مصير الأفراد بل مصير الأوطان والبلدان والمجتمعات بطبيعة الحال، بل البشرية بأسرها وهي تواجه تحديات غير مسبوقة، كالتي ما تزال تعيش تحت وطأتها، وإن كانت قد قطعت نصف الطريق نحو مواجهتها عبر الجهد الذي بذله عشرات ألوف الأطباء والعلماء والخبراء والباحثين، عاملين بجهد منقطع النظير على اكتشاف علاج ولقاح للوباء المستشري. وهو الذي فتك بأكثر من مليون ونصف إنسان، في مقدمهم الجسم الطبي من أطباء وممرضين وممرضات وعاملين في إدارة المستشفيات وتأمين الخدمات داخلها.
وما قبل الوباء ليس كما بعده، حتى ولو نجحت البشرية في استئصاله كما فعلت إزاء الكثير من أمثاله التي حملت الدمار لشعوبها وحضاراتها، فالبصمات التي سيتركها انتشاره لا تقاس بسنوات قريبة. وهنا بالضبط بيت القصيد في التركيز على التعليم . فقد تركت الجائحة جراحاً لا تمحى على جسم هذا القطاع، وتمتد منه إلى أجيال تراهن على العلم كسلاح وحيد في معركة الحياة. وهي جراح ثخينة تحتاج إلى أجيال عدة للأمها والتعافي منها.
بالطبع تختلف بصمات الوباء بين الدول والمجتمعات، علماً أن أحداً لم ينفذ من مضاعفاتها. العديد دفع أثماناً بشرية غالية وهو يكافح، وتمزقت فيه البُنى العائلية والوظيفية والمجتمعية بفعل فتكه وقيوده، وانهارت أنظمة صحية وقطاعات أساسية في أكثر الدول تقدماً. ومات أناس في العالم الثالث وهم لا يدرون ماذا ألمَّ بهم. وأقفلت مدن وقرى بمئات الألوف، وجاع أناس يرتزقون من تعبهم اليومي. ثم في حال نجح اللقاح ووصل إلى العدد الأكبر من الناس، وهذا يستغرق سنوات، هناك عشرات ملايين المصابين الذين يتركهم الوباء، وهم بحاجة إلى متابعة وعلاجات في أجهزتهم الحيوية.
(باحث وأكاديمي)