على أعتاب الصحراء في جنوب العراق، يغيب أيّ أثر لبحيرة ساوة باستثناء لافتة تدعو إلى "عدم صيد الأسماك"، في موقع شكّل في الماضي موئلاً للتنوّع الحيوي لكنّه استحال اليوم أرضاً قاحلة بسبب الأنشطة البشرية والتغيّر المناخي. وعلى ضفاف البحيرة اليوم، هياكل خرسانية لمبانٍ كانت في تسعينيات القرن العشرين فنادق ومرافق سياحية تستقبل عائلات وأشخاصاً متزوّجين حديثاً كانوا يقصدون المنطقة للنزهات أو السباحة. هكذا تغيّر الوضع اليوم تماماً، إذ جفّت بحيرة ساوة بالكامل وباتت ضفافها مغطاة بالمخلفات البلاستيكية والأكياس العالقة على شجيرات يابسة على أطراف المنخفض، مع هيكلَين حديديَّين أكلهما الصدأ يعودان لجسرَين عائمَين كانا يعلوان سطح البحيرة.
يقول الناشط البيئي العراقي حسام صبحي لوكالة "فرانس برس": "هذا العام وللمرّة الأولى في تاريخها، اختفت البحيرة تماماً"، مشيراً إلى أنّ "مساحة مياه البحيرة كانت في السنوات السابقة تتقلّص في خلال موسم الجفاف". أمّا الآن، فلم يتبقَّ من البحيرة سوى أراضٍ رملية مغطاة بالملح الأبيض وبركة صغيرة تسبح فيها أسماك فوق العين التي تربط البحيرة بمنبعها من المياه الجوفية.
وفي هذا الإطار، حذّر الرئيس العراقي برهم صالح، اليوم الأربعاء، من أنّ بلاده سوف تواجه عجزاً في المياه يُقدَّر بأكثر من 10 مليارات متر مكعّب بحلول عام 2035. جاء ذلك في تغريدة على حسابه على موقع "تويتر"، تعقيباً على جفاف بحيرة ساوة الواقعة في محافظة المثنى جنوبي البلاد.
#بحيرة_ساوة، لؤلؤة الجنوب في السماوة، اتذكر زيارتي لها مع والدي عندما كنتُ يافعاً، منبهرا بجمالها وبريقها، ان جفافها امر مؤسف وتذكير قاس بخطر التغير المناخي الذي يشكّل تهديدا وجوديا لمستقبلنا في العراق والمنطقة والعالم، لذا يجب أن يصبح التصدي لتغير المناخ أولوية وطنية للعراق. pic.twitter.com/Z8xqFBIljx
— Barham Salih (@BarhamSalih) April 27, 2022
وكتب صالح: "جفاف بحيرة ساوة، لؤلؤة الجنوب في السماوة (جنوب)، أمر مؤسف وتذكير قاس بخطر التغيّر المناخي الذي يشكّل تهديداً وجودياً لمستقبلنا في العراق والمنطقة والعالم". أضاف أنّه "من المتوقع أن يصل عجزنا المائي إلى 10.8 مليارات متر مكعّب بحلول عام 2035 (...) بسبب تراجع منسوبَي دجلة والفرات والتبخّر في مياه السدود وعدم تحديث طرق الريّ".
شدّد الرئيس العراقي على ضرورة أن يصير "التصدي لتغيّر المناخ أولوية وطنية للعراق"، إذ إنّ عدد سكان اليوم يتخطّى 41 مليوناً، ومن المتوقع أن يسجّل 52 مليوناً بعد 10 سنوات، وتترافق مع زيادة الطلب على المياه". وأوضح أنّ التصحّر يؤثّر سلباً على 39 في المائة من أراضي البلاد، وشحّ المياه على كلّ أنحائها، الأمر الذي من شأنه أن يؤدّي إلى "فقدان خصوبة الأراضي الزراعية بسبب التملّح".
تجدر الإشارة إلى أنّ العراق يعتمد في تأمين المياه أساساً على نهرَي دجلة والفرات وروافدهما، علماً أنّه يعاني منذ سنوات من انخفاض متواصل في الإيرادات المائية عبر هذَين النهرَين. وقد فاقم أزمة شحّ المياه كذلك تدنّي كميات الأمطار المتساقطة في البلاد على مدى السنوات الماضية.
وكان مستوى مياه بحيرة ساوة قد بدأ ينخفض تدريجياً منذ عام 2014، بحسب ما يفيد مدير البيئة في محافظة المثنّى (جنوب) يوسف سوادي جبار. ويحكي هذا المسؤول عن أسباب طبيعية تقف وراء جفاف البحيرة تتمثّل في "التغيّر المناخي وارتفاع درجات الحرارة في محافظة المثنّى الصحراوية التي تعاني كثيراً من الجفاف وشحّ الأمطار". والسبب الآخر بحسب المسؤول البيئي نفسه، هو من صنع البشر ويتمثّل في الآبار الارتوازية فوق المياه الجوفية التي كانت تغذّي البحيرة، والتي حُفرت لإقامة مشاريع صناعية قريبة تتعلق خصوصاً بالإسمنت والملح، الأمر الذي حوّل البحيرة تالياً إلى "أراض جرداء". يُذكر أنّ الحكومة العراقية كانت قد أعلنت في بيان يوم الجمعة الماضي، عن أكثر من ألف بئر غير قانونية حُفرت لأغراض زراعية.
وقد تكون بحيرة ساوة في حاجة إلى ما يشبه المعجزة لتعود إلى طبيعتها، إذ يتطلب الأمر إغلاق هذه الآبار غير القانونية وكذلك عودة الأمطار الغزيرة بعد ثلاث سنوات من الجفاف في بلد يُعَدّ من بين أكثر خمس دول متضرّرة من التغيّر المناخي في العالم. ويرى جبار أنّه "من الصعب أن تعود البحيرة إلى واقعها القديم".
وتخضع المنطقة منذ عام 2014 لاتفاقية "رامسار" الدولية، بحسب ما تشير لوحة كبيرة ثُبّتت عند ضفاف أرض منخفضة كانت بحيرة في ما مضى. كذلك تحذّر اللوحة ذاتها من "ممارسة صيد الأسماك بأيّ شكل من الأشكال" بالإضافة الى "عدم الاقتراب من العين المغذية للبحيرة بتاتاً". يُذكر أنّ "رامسار" هي معاهدة دولية للحفاظ على المناطق الرطبة واستخدامها المستدام، من أجل وقف الزيادة التدريجية لفقدان الأراضي الرطبة في الحاضر والمستقبل وتدارك المهام الإيكولوجية الأساسية للأراضي الرطبة وتنمية دورها الاقتصادي كما الثقافي والعلمي وقيمتها الترفيهية. وتحمل الاتفاقية اسم مدينة رامسار الإيرانية.
وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بالاتفاقية، جاء أنّ التركيب "الكيميائي للمياه (في البحيرة) فريد من نوعه"، مع الإشارة إلى أنّها "مسطّح مائي مغلق في منطقة ملحية". وكانت ساوة المكّونة من "صخور طينية معزولة بمادة جبسية" في الماضي، موطناً لأنواع نادرة عديدة من الطيور في العالم، مثل النسر الإمبراطوري الشرقي وطائر الحبار والبط البني، وفقاً للموقع نفسه.
والجفاف لا يقتصر على ساوة، فهذه حال مسطحات مائية كثيرة في العراق، من جرّاء ارتفاع معدّلات التصحر وشحّ المياه. وتتناقل شبكات التواصل الاجتماعي باستمرار صوراً لأراضٍ جرداء ومناطق جافة خصوصاً في أهوار بلاد وادي الرافدين المُدرجة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، من بينها هور الحويزة (جنوب) وكذلك بحيرة الرزازة في محافظة كربلاء وسط العراق.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإنّه في حال عدم توفّر سياسات مناسبة، قد يشهد العراق انخفاضاً بنسبة 20 في المائة في ما يخصّ موارد المياه العذبة المتاحة بحلول عام 2050 بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
ويعيد مستشار وزارة الموارد المائية في العراق عون ذياب الجفاف في بحيرة ساوة بجزء منه إلى "النقص الحاد في كمية الأمطار". ويلفت بحديث لوكالة "فرانس برس" إلى انخفاض معدّل الأمطار في المنطقة القريبة للبحيرة إلى 30 في المائة مقارنة بمعدّلاتها في السابق، الأمر الذي قطع التغذية عن المياه الجوفية التي تتعرّض في الوقت عينه لعمليات سحب مستمرة بواسطة الآبار. ويوضح ذياب أنّ كلّ ذلك يتزامن مع ارتفاع في درجات الحرارة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم ظاهرة تبخّر مياه البحيرة. ويتحدّث ذياب عن إجراءات حكومية للحدّ من الاستنزاف المستمرّ للمياه الجوفية في عموم العراق، من خلال منع منح أيّ إجازة لحفر آبار جديدة في مناطق معيّنة، بالإضافة إلى غلق الآبار غير القانونية.
ويرتبط كثيرون من أهالي مدينة السماوة (مركز محافظة المثنّى) التي تقع على بعد 25 كيلومتراً من البحيرة، بعلاقة قوية مع بحيرة ساوة. لطيف دبيس البالغ من العمر 60 عاماً واحد من هؤلاء، وهو يعيش ما بين مسقط رأسه السماوة والسويد البلد الذي انتقل إليه قبل 30 عاماً. ويعمل دبيس منذ عشر سنوات في سبيل رفع الوعي البيئي في السماوة من خلال حملة تنظيف لضفاف نهر الفرات وتحويل حديقة منزله الواسعة إلى حديقة عامة. وفي هذا السياق، يستذكر دبيس الرحلات المدرسية والعطل في أيام طفولته، عندما كانت عائلته تذهب للسباحة في البحيرة. وبالنسبة إلى هذا الناشط، فإنّه "لو كانت الحكومة مهتمة بهذه القضية، لما اختفت البحيرة بهذه السرعة... هذا أمر غير منطقي". يضيف لوكالة "فرانس برس" بحزن: "أنا رجل أبلغ من العمر 60 عاماً وقد عشت مع البحيرة. كنت أتوقّع أن أموت قبلها، لكنّها للأسف هي التي ماتت قبلي".
(فرانس برس، الأناضول)