بالة طرابلس.. ملجأ فقراء لبنان الجدد

06 أكتوبر 2020
ينتظر الزبائن (نذير حلواني)
+ الخط -

تشبه المدن أبناءها. وطرابلس (شمال لبنان) ولشدّة ما تشبه أبناءها، أصبحت وكأنّها أمهم. لم تحظ المدينة بلقب "أمّ الفقير" عن عبث أو من غير وجه حقّ. ففي المدينة التي يعيش أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر، أصبح التماهي بينها وبينهم أمراً بديهيّاً. أسواقها الشعبية لا تردّ زائرًا خائبًا. يجد فيها كلّ من يقصدها ما يتناسب مع قدرته الشرائية: حذاء بخمسة آلاف ليرة لبنانية (نحو ثلاثة دولارات بحسب سعر الصرف الرسمي)، قميص مقلّم بثلاثة آلاف (نحو دولارين بحسب سعر الصرف الرسمي، أو معطف من الفرو الطبيعي بمائتي دولار أميركي! "سوق البالة (الثياب المستعملة) ليس للفقراء فقط، يقصده الأغنياء أيضًا"، يقول رمضان، صاحب متجر لبيع الثياب والأحذية المستعملة في طرابلس. 
يُدلي رمضان بهذه المعلومة كأنه يُفصح عن سرّ كبير يجهله كثيرون في ما عداه هو وسائر تجّار الألبسة المستعملة. في السابق، أي منذ نحو عشر سنوات، كان عدد كبير من الزبائن يطلب من أصحاب المحال موعدًا خاصًّا بهم إما في الصباح الباكر جداً قبل موعد فتح المتجر أو مساء بعد إغلاق التاجر الستائر الحديدية. ويقول رمضان لـ "العربي الجديد": "عدد كبير من زبائن المتجر الدائمين كانوا يفضّلون ألا يلتقوا أحداً أثناء تسوّقهم في البالة تفادياً للحرج، إذ إنّ ثقافة شراء الملابس المستعملة أو أي شيء مستعمل غير موجودة لدى اللبنانيين بشكل عام".

سوق البالة في طرابلس (نذير حلواني)

 

على الرغم من أنّ الأمور اختلفت خلال السنوات الأخيرة، وأصبح زوّار الصباح الباكر وساعات المساء المتأخرة أقلّ عدداً من قبل، إلا أنهم ما زالوا موجودين. يحكي رمضان عن سيّدة غير محجّبة تزور السوق صباحاً وتلفّ شالاً خفيفاً حول رقبتها ترفعه على رأسها إذا ما شعرت بقدوم زبائن آخرين ربما تعرفهم ويعرفونها. تسرق الوقت سرقة، تقيس الملابس فوق ملابسها وتقيس الأحذية وهي واقفة مستندة على توازن جسدها فحسب. "ذوقها رفيع جداً وتحسن البحث عن القطعة الأجمل ولو في كومة من الملابس المكدّسة فوق بعضها بعضاً، وهذا ما يجعلها قادرة على التسوق بسرعة". 

 

رحلة البحث عن كنز 
يتطلّب التسوّق في متاجر الألبسة والأحذية المستعملة نفسًا طويلا وربما بعضًا من متعة لعبة البحث عن الكنز التي يحبها الأطفال. روّاد أسواق البالة يطلقون على هذه الكنوز مفردات من نوع "لقطة" أو "توفيقة"، لوصف قطعة من الملابس من الماركات العالمية المعروفة والتي لا تزال في حالة جيدة على الرغم من كونها مستعملة. يلعب الحظ لعبته أيضاً، إذ تباع قطعة واحدة من الملابس والأحذية المستعملة، على عكس المحال الأخرى. تقول إيمان، وهي ربّة منزل من طرابلس، إنّها تمضي أحياناً ما يقارب الأربع ساعات في سوق البالة. تضيف: "أجد متعة كبيرة في التسوق في البالة لأنني أغرق في البحث عن القطعة المناسبة لي ولأفراد عائلتي، فأنسى نفسي وهمومي لبعض الوقت".

سوق البالة في طرابلس (نذير حلواني)

 

تُمسك إيمان ابنتها بيدٍ وباليد الأخرى تبعد الملابس عن بعضها بعضاً لكي يتسنّى لها معاينة القطعة كاملة. تعرّفت على أسواق البالة منذ سنتين نتيجة للأزمة الماليّة التي يعيشها لبنان منذ فترة. تتابع: "خلال هاتين السنتين، كنت أشتري ثياباً غير مستعملة من المتاجر، بورقتها ( أي جديدة)، وأخرى من البالة". لكنّها، ومنذ تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد وارتفاع سعر صرف الدولار، لم تعد تزور تلك المتاجر لتكتفي بالبالة فحسب. في هذا السياق، يقول صاحب متجر آخر، فضّل عدم الإفصاح عن اسمه، أنّ الأزمة جاءت بزبائن جدد إلى أسواق البالة: "التجار يعرفون زبائنهم جيّدًا، وإذا لم نتذكّر وجوههم كلهم، نستطيع أن نعرف ما إذا كانت هذه أولى زياراتهم إلى السوق أم أنهم اعتادوا أن يسرحوا ويمرحوا فيه". 

طرابلس (نذير حلواني)

 

تدهور الأوضاع المالية
على الرصيف أمام متجره، يضع تاجر الأحذية المستعملة طاولة خشبية يقف بقربها مع رجل آخر يساعده. يمسك بيده فردة حذاء أبيض وباليد الأخرى فرشاة يغرقها في سطل من المياه والصابون قبل أن يفرك فيها نعل الحذاء. هذا الروتين يرافق وصول البضاعة إلى المتجر: فرزها بين رجّالي، نسائي وولادي، ثم تنظيفها حتى تبدو وكأنها جديدة خرجت للتوّ من المصنع إلى الزبون، ثم عرضها على الرف أو تعليقها في السقف، أو تكديسها فوق بعضها بعضاً في حاوية كبيرة. يمرّ شابّ مع جارته، وهي بعمر والدته، من أمام المحال، ويلقيان التحية على جميع التجار واحداً تلو الآخر. 

الأرشيف
التحديثات الحية

يقول شادي، وهو من بلدة مجاورة لطرابلس، إنه يأتي إلى البالة باستمرار لأن لا قدرة له على شراء الملابس الجديدة. "الملابس التي أرتديها الآن والحذاء اشتريتها من هنا"، مشيراً إلى ملابسه. ماذا يقول لأصدقائه إذا سألوه من أين اشترى هذا القميص أو ذلك الحذاء؟ يجيب شادي: "لا أخبر أحداً أنني أشتري ثيابي من البالة، ليس لأنني أخجل من ذلك إنما لأن المجتمع لا يتقبل هذه الفكرة بعد". تتنقل جارته من متجر إلى آخر بسرعة البرق وتقول للتاجر ما إن تترك محلّه متوجّهة عند آخر: "وين فيني وفّر ألف بروح". تضحك وتتابع رحلة البحث عن الملابس بالأسعار الأكثر تناسباً مع ما في جيبها وجيب شادي. الأخير يشكو غلاء أسعار الملابس في البالة أيضاً، قائلاً: "حتى البالة صارت غالية".

سوق البالة في طرابلس (نذير حلواني)

 

من جهته، يرد أحد التجار: "نشتري البضاعة من الخارج، يعني بالدولار، وندفع الرسوم الجمركية عليها". يضيف: "لم نعد نستطيع أن نبيع الأغراض بالأسعار نفسها كما في السابق". ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان إلى حدّ لم تشهده البلاد منذ سنوات وعقود طويلة، لم تعد أسواق البالة في طرابلس مقصدا للفقراء القُدامى إنما أصبحت ملجأ لفقراء لبنان الجدد.