في الظاهر، يبدو توقيع بريطانيا اتفاق إنشاء "مراكز استقبال اللاجئين" في رواندا كأنه جزء من حلول لتخفيف كلفة اللجوء المادية على جيوب دافعي الضرائب. وهي تسوّقه، كما حال الدنمارك، بأنه "خطوة رحيمة لطالبي اللجوء في مواجهة مهربي البشر الذين يتسببون بمآسي كثيرة في طريق الوصول إلى البرّ الأوروبي، وبينها الغرق في البحر الأبيض المتوسط". لكن مصادر خاصة ترى في حديثها لـ"العربي الجديد" أن "ما يجري ليس سوى انعطاف أوروبي خطر يهدف إلى نسف كل الاتفاقات الدولية، وبينها معاهدة جنيف للجوء المبرمة عام 1951، ويخشى ألا يتوقف الأمر عند بريطانيا والدنمارك".
يقول الباحث الدنماركي الخبير في شؤون العلاقات الأوروبية الأفريقية جون غراوسغورد لـ"العربي الجديد": "ما يجري في الكواليس أكثر فداحة من المعلن، وهو ما تكشفه تسريبات للقاءات سرّية أجرتها أطراف مختلفة مع رواندا، وتشير إلى حالة أوروبية عامة ترغب في التخلي عن المواثيق والعهود الدولية، ما يكرر نموذج أستراليا التي اتخذت قرارات خاصة باللجوء في دول وجزر بعيدة عن برّها".
تعميم التجربة
قد يشكل اتفاق بريطانيا والدنمارك مع رواندا مقدمة لتعميم التجربة على دول أخرى، وتطبيق سياسة "منع طلب اللجوء". يشرح الباحث الدنماركي المتخصص في شؤون الهجرة بيورن فيسترغورد أن "لاجئين قادمين من العراق وأفغانستان وسورية ودول أخرى من خارج أوروبا لن يستطيعوا مستقبلاً طلب لجوء في بريطانيا والدنمارك، وسترفض طلباتهم ويرحّلون. وإذا أصروا على تقديمها فسيرحّلون بعيداً لمسافة أكثر من 6 آلاف كيلومتر، أي إلى رواندا، ليعيشوا تحت رحمة الزمن، كما حال طالبي اللجوء إلى أستراليا منذ عام 2003".
ولا تنفي السلطات في بريطانيا والدنمارك تنفيذها سياسة "الترحيل بالإكراه". وتصرّ كوبنهاغن التي تطبق سياسات لجوء مشددة منذ عام 2015، ما خفض عدد القادمين إلى أراضيها، على إقامة مراكز لجوء خارج أوروبا. ويذكر فيسترغورد أن الحكومة الدنماركية أمنّت غالبية برلمانية لمنح سلطات تنفيذ القانون حق ترحيل الأشخاص إلى رواندا، حتى باستخدام "حجز الحرية" أي الاعتقال. واللافت أن يسار الوسط الحاكم تحالف برلمانياً مع أحزاب المحافظين والليبراليين وحزب الشعب اليميني المتشدد لتأمين هذه الغالبية، واضطرت الحكومة في العام الماضي إلى الاعتراف بوجود "مفاوضات سرية" مع رواندا.
وتكشف مصادر في البرلمان الأوروبي لـ"العربي الجديد" أن "سياسات بريطانيا والدنمارك تلحظ أيضاً أنه في حال ذهب لاجئ إلى رواندا ودرس طلب لجوئه، وتبين أنه يستحق حماية فلن يعني ذلك أنه سيُمنح تذكرة سفر إلى البلدين، بل سيكون لاجئاً محمياً في رواندا حتى تصبح أوضاع بلده أفضل كي يعود إليها".
وفي رواندا، البلد الذي شهد حرباً أهلية دموية بين جماعتي التوتسي والهوتو أدت إلى إبادة نحو 800 ألف شخص عام 1994، ستشيّد مراكز لإيواء لاجئين قرب العاصمة كيغالي. وستخصص لندن في المرحلة الأولى نحو 120 مليون دولار، واستثمارات أخرى لإيواء رواندا نحو 100 طالب لجوء، مع منح 12 متراً مربعاً لكل شخص في غرف جماعية، بحسب ما أفادت وسائل إعلام بريطانية بينها "ذي غارديان".
وفي شأن الاتفاق بين الدنمارك ورواندا، تفيد معلومات حصلت عليها "العربي الجديد" بأن "كوبنهاغن ستنقل مقابل ملايين إلى السلطات الرواندية الولاية القانونية لمعالجة طلبات اللاجئين، وتوفير السكن وضمان حقهم في العمل"، علماً أن غراوسغورد يربط تأخر اتفاق الدنمارك مع رواندا تسعة أشهر بالمطالب المالية الكبيرة للدولة الأفريقية.
عقلية استعمارية جديدة
وقد جرى تحذير بريطانيا والدنمارك من أن الاتفاق مع رواندا قد ينتهك المعاهدات الدولية، وكذلك من تخطي القوانين الأوروبية وبينها اتفاق حقوق الإنسان واللاجئين، لكن واضح أن أوروبا انتهجت منذ أن واجهت ما أسمته "أزمة اللاجئين" عام 2015 سياسات أكثر تصلباً تجاه القادمين إليها من خارج القارة.
ويعتبر متابعون تحدثت إليهم "العربي الجديد" أن "التبريرات الإنسانية مثل إظهار الحرص على أرواح عابري البحار، ومحاربة تهريب البشر، وتوقيع أوروبا اتفاقاً مع تركيا لوقف تدفق المهاجرين وقبول المرحلين من اليونان لقاء نحو 3 مليارات يورو (3.23 مليارات دولار)، تمثل عقلية استعمارية جديدة لكنها تستخدم أساليب قديمة تعتمد على رشاوى باسم مساعدات اقتصادية". ويشدد غراوسغورد على أن الاتحاد الأفريقي لم يتردد في انتقاد ما أطلق عليه سياسات استعمارية جديدة. والحقيقة أن الدول الأوروبية التي تخصص جزءاً من ناتجها الإجمالي المحلي كمساعدات للدول النامية، تستخدم منذ سنوات هذه الأموال كـ"جزرة" لحث الدول على قبول المرحلين واللاجئين الذين ترفض طلباتهم.
وأخيراً، نشطت دول إسكندنافية وأخرى بينها ألمانيا وبريطانيا في إعادة ترحيل طالبي اللجوء الأفغان وغيرهم. ومع قدوم لاجئي أوكرانيا باتت الموازنات المخصصة للتنمية الدولية تستخدم في إيوائهم. وتخطط لندن لبدء نقل طالبي لجوء وصلوا عبر المانش، كمقدمة لتنفيذ سياسة ترحيل أوسع.
اللافت أن فيسترغورد يرجح "تحول الاتفاقات الثنائية الحالية إلى نهج أوروبي عام، في ظل تصاعد موجة رافضي اللجوء في القارة، كما الحال في دول شرق أوروبا ووسطها، وفي دول غرب القارة وشمالها".
أما غراوسغورد فيلفت إلى أن نشر بعض الأوروبيين التكاليف المالية لاستقبال اللاجئين أثناء درس طلباتهم، والتي ترتبط غالبيتها بأموال دافعي الضرائب، وسط الأزمات الاقتصادية التي تضرب المجتمعات، يهدف إلى "تأمين تأييد شعبوي لسياسات التشدد". وتشير الحكومة الدنماركية إلى أن "إسكان لاجئ في مركز استقبال محلي يكلف أكثر من 100 ألف كرونه (15 ألف دولار) سنوياً، بينما يكلف إرسال طفل طالب اللجوء إلى المدرسة يكلف نحو 90 ألف كرونه (14 ألف دولار)، ما يعني أن الاتفاق مع رواندا سيخفف الأعباء، علماً أن مبلغ 100 ألف كرونه قد يساعد 210 أسر فقيرة في باكستان".
مبررات واهية
لكن جهات أوروبية عدة ترفض أساليب حكوماتها في تقديم المبررات المالية لإقناع الجمهور بسياساتها المتشددة. ويذكر المعهد البريطاني لأبحاث علاقات الأعراق الذي يهتم بمكافحة التمييز والعنصرية أن "رواندا التي سبق أن اتهمتها لندن نفسها بممارسة القتل خارج القانون والتعذيب والإخفاء القسري، لا يمكن أن تكون آمنة لطالبي اللجوء".
كما اتهم المجلس البريطاني (IRR) لندن والأوروبيين الآخرين الذين يتوجهون للاتفاق مع رواندا بـ "إعادة أوضاع اللاجئين إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أي إلى ما قبل اتفاقية اللاجئين عام 1951". وتحدث مسؤولون في المجلس لـ"العربي الجديد" عن أن "أسوأ ما يجري هو العودة إلى ما قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948".
ولا يتردد غراوسغورد في وصف طرد سلطات لندن وكوبنهاغن طالبي اللجوء آلاف الكيلومترات بعيداً من أوروبا، بأنه "سياسة اتجار بالبشر بعقلية استعمارية. وإذا كان الاتجار بالبشر تنفذه عصابات إجرامية لدوافع مالية فنحن أمام دول وسياسيين يضعون ربطات عنق أنيقة يرغبون في نقل البشر قسرياً بطريقة تخالف كل القوانين والمبادئ التي تدعي الالتزام بها".
ومع تدفق اللاجئين الأوكرانيين بدا واضحاً "التمييز المؤسساتي والمنهجي في حق أولئك من خارج أوروبا. ويشير فيسترغورد إلى "تجميد أموال مخصصة لمشاريع تنموية في دول فقيرة مثل بوركينا فاسو وبنغلاديش وسورية، واستخدام أجزاء من أموال مخصصة لدعم الفلسطينيين من أجل صرفها لاستقبال اللاجئين من أوكرانيا. وجرى ترحيل عراقيين وأفغان من أكثر من دولة أوروبية، كما يقال للاجئين من خارج أوروبا أنهم غير مرحب بهم".
وتبرر كوبنهاغن اقتطاعات المساعدات الخارجية بأنها "لا تشملها وحدها، إذ تعتبر ممارسة شائعة ومنتشرة في النروج والسويد وفنلندا والمملكة المتحدة وفرنسا وكندا والولايات المتحدة". ويقول عضو لجنة السياسات الخارجية في البرلمان الأوروبي نيكولاي فيلومسن إن "الاتجاه الأوروبي العام يتخذ من صنبور المساعدات الإنمائية الخارجية وسيلة لوقف اللجوء والهجرة، بدلاً من صرفها على مشاريع بنية تحتية مستدامة للعالم الثالث".
قلعة مغلقة
وتؤكد المتحدثة باسم الشؤون الخارجية في البرلمان الدنماركي عن "اللائحة الموحدة" اليسارية، روزا لوند، أن "ما تسوّقه الحكومتان الدنماركية والبريطانية يحوّل الحديث عن حقوق الإنسان إلى كلام أجوف، فأفقر الدول في العالم باتت تدفع ثمن سياسات اللجوء المتشددة حول العالم".
وترصد الدنمارك هذا العام أكثر من 17 مليار كرونه (2.46 مليار دولار) كموازنة للمساعدات الإنمائية للدول الفقيرة، لكنها قررت استخدام الجزء الأكبر من هذه الأموال لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين. ويشير غراوسغورد إلى أن "دولاً أوروبية تناقش مع تونس وإثيوبيا نموذجاً مماثلاً لاتفاقي الدنمارك وبريطانيا مع رواندا. وتخصيص مئات الملايين لمشاريع إيواء اللاجئين على بعد 7 آلاف كيلومتر من كوبنهاغن لا يهدف إلى محاربة تهريب البشر، بل لجعل أوروبا قلعة مغلقة، وتعجيز الوصول إليها، وتحويل حياة طالبي اللجوء إلى يأس كي يعودوا إلى دولهم".