انتشار حمّى الضنك في السودان يعكس تردّي النظام الصحي

09 فبراير 2023
يتكاثر البعوض بالمياه الراكدة وبالتالي قد تزيد الإصابات بحمى الضنك (أشرف شاذلي/فرانس برس)
+ الخط -

على مدى عقود طويلة كافح قطاع الصحة العامة في السودان، الذي يفتقر إلى التمويل الكافي، من أجل تشخيص الأمراض أو علاج المرضى بطريقة فعالة، إذ إنّ الإنفاق الحكومي الأكبر كان يُخصَّص للخدمات الأمنية بدلاً من تلك الطبية. وقد بيّن التزايد الأخير في الإصابات بأمراض ينقلها البعوض، من قبيل حمّى الضنك والملاريا، مدى هشاشة النظام الصحي في البلاد.

وتتركّز أفضل مستشفيات السودان لجهة التجهيز في العاصمة الخرطوم، فيما تعتمد المناطق النائية على مشروعات صحية مموّلة من مانحين، من قبيل حملات التحصين وتحسين مرافق المياه والصرف الصحي. لكنّ المساعدات الخارجية، في هذا المجال وفي غيره، تراجعت إلى حدّ كبير بعد انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، بحسب ما أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) موضحاً أنّ التمويل انخفض إلى ما دون 50 في المائة من الاحتياجات المطلوبة في عامَي 2021 و2022 الماضيَين.

في أواخر الخريف الماضي، ظنّت طبيبة شابة تعمل في أحد مستشفيات شمال كردفان (وسط السودان) أنّ ما تراه من حالات هو تفشّ جديد للملاريا، إذ كان المرضى الذين قصدوا المستشفى غير المجهّز يعانون من أعراض شبيهة بأعراض الملاريا من قبيل ارتفاع حرارة الجسم ووهن عام وما يشبه الصداع النصفي وغيرها.

وبعد نقل عيّنات دم لهؤلاء المرضى إلى مختبر في الخرطوم، تبيّن أنّ ثمّة مرضى مصابين بالفعل بالملاريا التي يتسبّب فيها طفيل، في حين أنّ آخرين كانوا مصابين بحمّى الضنك التي تتشابه في الأعراض مع الملاريا غير أنّها تنجم عن فيروس. يُذكر أنّه في حال لم تُعالَج الاصابة الشديدة بحمّى الضنك، فقد يؤدّي المرض إلى فشل الأعضاء الحيوية ثمّ إلى الوفاة.

وأفادت الطبيبة الشابة التي فضّلت عدم الكشف عن هويتها بأنّ المستشفى حيث تعمل يفتقر إلى الوسائل الأساسية لعلاج حمّى الضنك ووقف تفشّيها، لافتة إلى أنّه "كان يتوجّب على المرضى (حينها) إمّا افتراش الأرض وإمّا إحضار أسرّتهم إلى المستشفى".

وفي حين أنّ الملاريا تُعَدّ مرضاً شائعاً إلى حدّ ما في المناطق الواقعة في وسط السودان وجنوبه، إلا أنّ حالات تفشّي حمّى الضنك على نطاق واسع تبقى نادرة. لكنّ هذه الحمّى انتشرت في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأوّل الماضيَين في عشر ولايات من إجمالي 18 ولاية بالبلاد، الأمر الذي أدّى إلى وفاة 36 شخصاً على أقلّ تقدير وإصابة أكثر من 2200 آخرين بالمرض، بحسب بيانات وزارة الصحة السودانية. يُذكر أنّه من المرجّح أن تكون الأعداد الفعلية للإصابات والوفيات أعلى بكثير، نظراً إلى أنّ الاختبارات محدودة.

من جهته، قال الطبيب المتخصّص في جراحة الكبد وزرع الأعضاء والناشط البارز المؤيّد للديمقراطية في البلاد علاء الدين عوض محمد نجود إنّ "المستشفيات في خارج الخرطوم غير مرتبطة بمعظمها بقاعدة بيانات وزارة الصحة".

وقد أعادت منظمة الصحة العالمية تفشّي حمّى الضنك في السودان إلى عوامل عدّة، لعلّ أبرزها غياب البنية التحتية اللازمة لمراقبة الأمراض، والفيضانات العارمة التي استمرّت من أغسطس/آب 2022 حتى أكتوبر من العام نفسه. أوضحت أنّ المياه الراكدة مثّلت مواقع تكاثر مثالية للبعوض، الأمر الذي ساهم في انتشار المرض.

ويخشى خبراء الصحة كذلك من احتمال أن ترفع الهجرة المتزايدة للبعوض، نتيجة تغيّر المناخ، أعداد الإصابات بحمّى الضنك، إلى جانب أمراض استوائية أخرى تظهر عادة في مناطق ما بعد الحدود الجنوبية للسودان.

وتتسبّب بعوضة "الزاعجة المصرية" خصوصاً في قلق إزاء انتشار المرض، لا سيّما أنّ أعدادها تتزايد في السودان وهي تحمل فيروس حمّى الضنك إلى جانب فيروس الحمّى الصفراء.

في سياق متصل، أفادت عالمة الأوبئة في كلية ليفربول البريطانية للطب الاستوائي آن ويلسون بأنّ احتواء الأمراض التي تنشرها بعوضة الزاعجة المصرية "أمر صعب"، لأنّها في الغالب تلدغ الأشخاص في خلال النهار، الأمر الذي يجعل الناموسيات المضادة للبعوض أقلّ فعالية، سواء أكانت معالجة بالمبيدات أو لا.

وتدير الحكومة السودانية المستشفيات العامة في البلاد، علماً أنّ متوسّط ​​تكاليف العلاج غير المشمولة في التأمين بلغ نحو 70 في المائة في عام 2019، بحسب أحدث بيانات البنك الدولي، الأمر الذي يدفع مرضى كثيرين إلى الاستدانة من أجل سداد تكاليف العلاج. وتُعَدّ المستشفيات في المناطق الريفية بالسودان من بين أكثر المستشفيات فقراً، إذ لا تتوفّر إلا على أسرّة معدنية وأطباء.

وفي ولاية شمال كردفان حيث تفشّت حمّى الضنك أخيراً، رأى كثيرون أنّه لم تتمّ السيطرة على الفيروس المسبّب للمرض على مدى أشهر عدّة بسبب النقص الواضح في معدّات فحص الدم. وبعد أن أقرّت وزارة الصحة رسمياً بتفشّي المرض في نوفمبر الماضي، أفاد مسؤولو الولاية بأنّ الاختبارات والعلاج توفّر مجاناً لجميع المرضى.

بحلول يناير/كانون الثاني الماضي، أُعلنت الولاية خالية من حمّى الضنك. وعلى الرغم من هذا الإعلان، قالت الطبيبة الشابة إنّها ما زالت تعالج حالات يُشتبه في إصابتها بالمرض في الولاية. وأشارت إلى أنّ مرضى قليلين يستطيعون تحمّل تكاليف اختبارات الدم.

وفي هذا الإطار، كشفت الطبيبة الشابة وكذلك نجود أنّ النقص الكبير يضطر الأطباء إلى اللجوء إلى السوق السوداء للأدوية الأساسية، لتوفير محاليل "باراسيتامول" لعلاج الحمّى على سبيل المثال.

ومنذ أكثر من أربع سنوات، السودان غارق في أزمة اقتصادية متصاعدة. فقد فقد الجنيه السوداني منذ عام 2018 أكثر من 95 في المائة من قيمته في مقابل الدولار الأميركي، الأمر الذي يكبّل قدرة الحكومة على شراء الأدوية أو المعدّات الطبية من الخارج.

في نهاية العام الماضي، أفاد الصندوق القومي للإمدادات الطبية في السودان، الهيئة المكلّفة بشراء الأدوية، بأنّ توفّر أدوية السرطان انخفض إلى 48 في المائة من الاحتياجات، فيما بلغت النسبة في ما يخصّ أدوية الطوارئ 68 في المائة.

يُذكر أنّ الأطباء الذين أُجبروا على العمل في مقابل أجور ضئيلة أو بلا أجور وسط ظروف صعبة في أثناء أزمة كورونا الوبائية، لجأوا إلى الإضراب عن العمل مرّات عدّة في العام الماضي.

ويتّهم متابعون للشأن الصحي في البلاد القادة العسكريين بعدم منح الصحة أولوية كبرى. وبحسب ميزانية عام 2021 المدرجة على موقع الحكومة الرسمي على شبكة الإنترنت، فقد تلقّت وزارة الصحة أقلّ من نصف ما خُصّص للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع. وفي هذا الإطار، لم يجب المتحدث العسكري على طلب وكالة الأناضول بالتعليق.

ومع قلّة الموارد، لجأت وزارة الصحة الاتحادية في السودان إلى تسجيلات مصوّرة قصيرة بثّتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف تشجيع المواطنين على تغطية مصادر المياه الراكدة وتركيب شباك من الأسلاك على النوافذ. لكنّ قليلين هم الذين يرون في ذلك حلاً طويل الأمد.

بالنسبة إلى المتخصصة في الأمراض المعدية ندى فضل، وهي كذلك منسقة منظمة "سودان نكست جين" (الجيل التالي في السودان)، فإنّ "البلد كلّه في حالة فوضى... وقد لا تصبح الرعاية الصحية أولوية من أجل البقاء على قيد الحياة".

(أسوشييتد برس)

المساهمون