نظراً للتداعيات الخطيرة التي تخلفها وقائع انتحار التلاميذ على نفسية زملائهم، وعلى أسرهم، تسعى السلطات التونسية إلى زيادة الإحاطة النفسية والاجتماعية بالتلاميذ، وملاحظة العلامات التي قد تظهر على بعضهم للحيلولة دون وقوع مزيد من حالات الانتحار.
في 10 مايو/أيار الماضي، اكتشف حارس معهد ثانوي في رقادة بمحافظة القيروان (وسط غرب) انتحار تلميذ في مستودع مخصص للمعدات. وفي 7 إبريل/نيسان، أقدمت تلميذة بالمعهد الثانوي في قصيبة المديوني بولاية المنستير (وسط) على الانتحار بإلقاء نفسها من الطابق الأوّل، مما أدى إلى إصابتها بكسور، وشهدت محافظة القيروان يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2022، انتحار تلميذة تبلغ من العمر 17 سنة.
ويقول أستاذ علم النفس التربوي الباحث بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس، محرز الدريسي، لـ"العربي الجديد"، إنه "يمكن الحديث عن جملة من أسباب انتحار التلاميذ في غياب الدراسات العلمية الدقيقة، ومن بينها مسألة المراهقة التي عادة لا يتم تأطيرها داخل الأسرة، أو في الوسط المدرسي. المراهق يعيش عادة نقلة نفسية وجسدية وذهنية، ومع ذلك لا يجد مرافقة أو متابعة أو رعاية، لكن أكثر ما يثير التساؤل هو غياب الإحاطة داخل المؤسسات التربوية التي يفترض أن تكون قريبة من التلميذ عندما يكون في وضعية صعبة، سواء كانت دراسية أو نفسية أو اجتماعية".
ويتابع الدريسي: "من بين الأسباب أيضاً سوء المناخ العام في المدرسة، أو طبيعة الدراسة التي تركز على التنافس بين التلاميذ، وعلى المردود المدرسي، فيشعر بعض التلاميذ بأن هذا المسار لا يستجيب لطموحاتهم، أو لرغبات الأسرة، وعندها يشعر التلميذ بالهوة الكبيرة بين الانتظارات العائلية والمردود المدرسي، وهذا قد يدفعه إلى أفكار سوداوية قد تؤدي به إلى اتخاذ قرار بالانتحار".
ويلفت إلى أن "اختيار الوسط المدرسي للانتحار لا يخلو من جانب استعراضي في ظل تزايد أهمية المشهد والصورة. حتى الموت باتت تتم مسرحته، أو إبرازه بشكل درامي، فالمسألة لم تعد مجرد عملية انتحار، بل باتت لا تخلو من توجيه رسالة، وعلى الجهات المشرفة على التلاميذ الانتباه لهذا، وقراءة تلك الرسائل جيداً، فالانتحار هنا ليس مجرد إنهاء حياة شاب أو شابة، بل رسائل للتعبير عن حاجات معينة".
يضيف الدريسي: "الشاب المنتحر عادة ما يعبّر عن حرمان، أو غياب حاجات معينة، وبالتالي يلجأ إلى الانتحار في الوسط المدرسي ليكون أثر ذلك أشد إيلاماً، أو إيصال جملة من الرسائل، والأمر عادة لا يتعلق بمشاكل فردية، بل هو تعبير عن إشكالات جيل كامل. البعض قد يجد سبل الإنقاذ في النجاح، أو في الإحاطة العائلية، ولكنْ هناك فئات وأفراد لا يجدون الرعاية، فيلجأون إلى عمليات استعراضية مؤلمة، وهذه تجب على المؤسسات وسلطة الإشراف ومؤسسات الشباب دراستها بدقة، وبشكل علمي، والتنبه إلى أن المؤسسة التربوية لا تشتغل بطريقة تقدم بها الخدمات اللازمة للمراهقين والشباب".
ويقول رئيس جمعية أولياء التلاميذ، رضا الزهروني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "تسجيل حادثة انتحار واحدة يدعو إلى إطلاق صافرات الإنذار، بينما تتكرر منذ سنوات حالات انتحار التلاميذ، وهناك حادثة انتحار شهيرة وقعت في القيروان، وأخرى في طبرقة، وهذا أحد أنواع العنف الذي يمارسه التلميذ على نفسه عندما يجد أن الأبواب موصدة أمامه، إذ يلتجئ إلى أمر يعتقد أنه حل نهائي، وهذا مؤسف حتى وإن كان استثنائياً، كما أنه خطير، وغير مقبول أن يتكرر".
وأوضح الزهروني أنه "يجب العمل على الوقاية من تلك الحوادث من خلال الوقوف على الأسباب التي تدفع التلاميذ إلى هذا، أو توصل بعضهم إلى اليأس، فهل يعود ذلك إلى الإخفاق الدراسي، أو إلى معاملة دراسية سيئة، أو إلى سلوك داخل المؤسسة التربوية، أو لأسباب مرتبطة بالأسرة، أو في محيطها؟ الأسباب متنوعة، لكن الوقاية تنطلق أولاً من العائلة التي عليها متابعة الوضع النفسي لأبنائها وتصرفاتهم وسلوكهم وخطابهم، ومتابعة حالات الاكتئاب أو الرغبة في العزلة".
وبين أنه "ينبغي البحث في الأسباب التي تعود إلى الوسط المدرسي، وإن كان هناك ضغط معنوي مسلط على التلاميذ، ووضع حد لذلك، أو إن كان الأمر له علاقة بمسائل عاطفية بحكم المراهقة، وهذه يمكن أيضاً متابعتها. في حال وجود انحراف للتلميذ نتيجة إدمانه على المخدرات مثلاً تجب مراقبته، والتدخل لعلاجه، ومهما كانت الأسباب فلا يمكن ترك التلميذ من دون تدخل إلى أن يصل به الأمر إلى وضع حد لحياته، كما أن هذا لا يجب أن يحصل داخل المؤسسات التربوية مهما كان السبب".
وتابع أنه "لا بد من إرساء علاقات حوار داخل الأسرة، واتباع أساليب التربية الصحية، ومتابعة أي تغير في السلوك، ومن حيث الوقاية، يجب أن تتعمق المؤسسة التربوية في مثل هذه المواضيع، وكلها ملفات حساسة، والحديث عنها دقيق، لذا يجب التدخل من قبل مختصين يعرفون دلالات كل سلوك يطرأ على التلميذ كالانزواء، أو عدم الرغبة في الأكل، والعزوف عن الدراسة، ما يمكنهم من التدخل في الوقت المناسب. لا أحد بمعزل عما يحصل، وواهم من يعتقد أن ابنه لن يحدث معه أمر مماثل، وهناك مثال واضح لتلميذ البكالوريا في مدينة الحمامات (شمال شرق)، وهو من أسرة ميسورة ومثقفة، ووالده طبيب، لكنه قام بالانتحار بعد فشله في امتحانات البكالوريا، وبالتالي فإن الحذر واجب، والحوار مع الأبناء ضروري".
وأكد رئيس جمعية أولياء التلاميذ، أن "البعض يختار الوسط المدرسي لأن الصدمة قد تكون متأتية من المؤسسة التربوية، أو لها علاقة بالنتائج، أو بمشكلة مع زملائه أو أساتذته"، محذراً من "بعض السلوكيات التي قد تقود التلاميذ إلى الانتحار مثل التنمر، أو الخوف من الإخفاق الدراسي، وهنا تلعب العائلة دوراً مهماً، إذ ينبغي ألا تضع التلميذ تحت ضغط، أو تدفعه إلى اليأس في صورة الفشل، إذ عادة ما تستعمل بعض الأسر عبارات للمقارنة، أو تهدد التلميذ بتوقف الإنفاق إذا فشل، وغيرها من الأشياء التي تجعله يشعر بالإحباط واليأس".