في ظاهرة تعكس إعادة تحديث الصينيين رياضة التأمل التي اعتبرت دائماً جزءاً من تعاليم البوذية، وجعلها نشاطاً عصرياً للطبقة المتوسطة المثقلة بالعمل، بات عدد كبير من موظفي المكاتب يقضي فترات استراحة الغداء بحثاً عن الانسجام الروحي، ما دفع شركات خاصة إلى الاستثمار في المجال من خلال توفير مدربين ذوي كفاءة عالية لخلق ما يعرف بـ"اليقظة الذهنية". وتتعاقد هذه الشركات مع متخصصين بمساعدة الموظفين في التأمل الذهني خلال فترة الاستراحة اليومية التي تستمر ساعة كاملة.
وتشير بيانات حديثة إلى أن عدد الشركات المتخصصة في صناعة اليقظة الذهنية في الصين زاد بنسبة 10 في المائة خلال السنوات الثلاث الماضية، في وقت يوصي عدد أكبر من العيادات الصحية في البلاد باستخدام الرياضة الروحية لعلاج القلق والاكتئاب، ومشكلات أخرى تتعلق بالصحة العقلية.
وأنشأت مؤسسات أكاديمية، بينها جامعة بكين، مراكز أبحاث متخصصة في اليقظة الذهنية، ما يشير إلى أن هذه الصناعة باتت مهيأة كي تصبح أكثر رواجاً مع تزايد قلق الحكومة الصينية، أكثر من أي وقت، من ارتفاع مستويات الاضطرابات النفسية في المجتمع.
والعام الماضي، جعلت الحكومة تعزيز الصحة العقلية للأمة هدفاً رئيسياً في استراتيجيتها بعنوان "الصين الصحية 2030"، ودعت إلى التأمل كوسيلة تعتبرها ذات فعّالية كبيرة للتعامل مع الضغوط التي سببتها جائحة كورونا التي تفشت في البلاد والعالم.
استديوهات اليقظة
يقول رونغ جيه، وهو مدرب يقظة يعمل في شركة متخصصة مقرها مدينة شنزن (جنوب)، لـ"العربي الجديد": "نهدف إلى إعادة شحن الطاقة الروحية من خلال منح دروس لليقظة تستهدف الشباب بالدرجة الأولى، باعتبارهم الفئة الأكثر تعرضاً للضغوط اليومية في المجتمع بسبب عملهم ساعات طويلة، ومواجهتهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة نسبياً.
يضيف: "تنفذ معظم الشركات التي تتعاقد مع مدربي اليقظة أعمالاً تستدعي جلوس الموظفين ساعات طويلة خلف مكاتبهم، لذا يستهدف القيمون عليها استغلال ساعة الراحة الممنوحة للموظفين من أجل شحذ هممهم، وتفريغ طاقتهم السلبية. وتبدأ الحصة بدخول الموظفين إلى استديو عبارة عن غرفة تتسع بين 30 و50 شخصاً، ثم تغلق الستائر ويضع الموجودون داخلها أقنعة على عيونهم، ويجلسون على وسائد قطنية. وخلال الجلسة تبث موسيقى خاصة طوال مدة الحصة التي تراوح بين 40 و60 دقيقة. وتوضع روائح من خلاصات الزهور والأعشاب في مكيفات جانبية كي تنتشر في المكان".
ويوضح أن "معظم الموظفين الذين يلتزمون هذه الحصص حالياً إناث في العقد الثالث، وغالبيتهن متزوجات ولديهن أطفال، بينما يعتبر إقبال الذكور أقل نسبياً، لأنهم أكثر قدرة من الإناث على تحمّل ضغوط العمل".
يضيف: "نظراً إلى ممارسة العديد من الموظفين اليقظة الذهنية للمرة الأولى، يُستعان بالموسيقى والعطور، لكن في مراحل متقدمة قد تذهب الرياضة الروحية إلى أبعد من ذلك، ويُستغنى بالكامل عن المحفزات الخارجية، علماً أن القائمين على هذه الصناعة يحاولون تجاوز فكرة استديوهات العمل داخل الشركات، وجعل الخدمة متاحة للجميع في الأماكن العامة عبر توفير كبسولات للاستخدام الشخصي تشبه أكشاك الاتصالات، في إطار ما يعرف بالاقتصاد التشاركي في الصين".
شعبية كبيرة
تقول شين شين (28 عاماً)، وهي موظفة تعمل في شركة اتصالات بمدينة شنغهاي، لـ"العربي الجديد": "بدأت بأخذ دروس في اليقظة الذهنية منذ ستة أشهر، بعدما تعاقدت الشركة مع مدرب متخصص، وساعدتني هذه الحصص في إدارة ضغوطي الحياتية، وتجاوز مرحلة الأرق الذي عانيت منه العام الماضي. وبعد مرور شهر واحد لمست تحسناً كبيراً في عادات نومي، وأصبحت أكثر قدرة على السيطرة على مشاعري، والتخلص من الطاقة السلبية والكثير من الأشياء التي كانت تعكر مزاجي العام".
ويشرح الباحث في مجال التنمية البشرية، جانغ يان، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بأن "اليقظة الذهنية جزء من الثقافة التقليدية الصينية، وباتت فصولها تحظى بشعبية كبيرة في قطاع المؤسسات الخاصة حيث يكافح الموظفون للتكيّف مع جداول أعمال مرهقة قد تصل إلى 15 ساعة يومياً. ودفع ذلك الشباب إلى تبني مجموعة أنماط الحياة البديلة بحثاً عن السلام الداخلي من دون الاضطرار إلى ترك وظائفهم. وهكذا أنشئت استديوهات اليقظة الذهنية من أجل تلبية احتياجاتهم ورغباتهم، علماً أن المنصات الإلكترونية التي توفر هذه الخدمة يتابعها أكثر من 50 مليون مستخدم، ما يعكس حجم الضغوط التي تتعرض لها هذه الفئة".
وعن الأسباب التي ساعدت في انتعاش هذه الصناعة، يقول جانغ: "لا شك في أن دعوة الحكومة إلى اعتماد التأمل طريقة للتعامل مع الضغوط ساهمت كثيراً في تقبّل الفكرة، كذلك تركت جائحة كورونا التي استمرت ثلاث سنوات ندوباً كبيرة في نفوس الناس، علماً أن عدداً كبيراً من الشباب يخشون تناول الأدوية أو زيارة الطبيب في حال تشخيص حالاتهم بأنها اضطرابات نفسية أو عقلية، ويفضلون بدلاً من ذلك ممارسة التأمل باعتباره رياضة ذهنية".
وفي العقد الماضي نظر الصينيون إلى التأمل بأنه امتداد لتأثير البوذية، ورفض الجيل الجديد هذه الممارسة، واعتبرها هراءً ومجرد خرافات قديمة، لكن هذه المواقف تغيّرت كثيراً خلال السنوات الثلاث الماضية، وبات كثيرون ينظرون إلى اليقظة الذهنية باعتبارها أسلوباً عصرياً يجلب فوائد جمّة لأساليب العلاج النفسي بعيداً عن تعقيدات طرق العلاج الحديثة.
ويطرح خبراء في هذا المجال فكرة إدراج الرياضة الروحية في المقررات الدراسية لطلاب المرحلة الابتدائية والمتوسط، من أجل تأهيل الجيل القادم قبل الدخول إلى معترك الحياة، ومواجهة التحديات في بيئة العمل والمحيط الاجتماعي.