لم تنتهِ بعد المواجهة بين نادي قضاة المغرب وبين المجلس الأعلى للسلطة القضائية في البلاد، وها هو الأخير يلجأ اليوم إلى "التأديب".
"كنّا نودّ أن ينتهي هذا الملف ومعه ملف الزملاء على خلفية ممارسة حرية التعبير من دون أن يصل إلى المحاكمات التأديبية وآثارها، لكون هذه المواضيع يجب أن تؤطر بحلول أخرى ليس من بينها التأديب". بهذه العبارات يكشف نادي قضاة المغرب (جمعية مهنية للدفاع عن مصالح القضاة) عن جولة جديدة من جولات المواجهة المستمرة منذ سنوات مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بعدما بادر الأخير فجأة ومن دون سابق إنذار إلى استدعاء الأمين العام للنادي عبد الرزاق الجباري في الثاني من مارس/ آذار الجاري إلى جلسة محاكمة تأديبية بسبب ما نشره على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي.
وبينما أعاد استدعاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى الواجهة معركة تثبيت حرية قضاة المغرب بالتعبير، وتحديد الحدود بين حرية التعبير وواجب التحفظ لدى القاضي، كان لافتاً الاستياء العارم في صفوف القضاة، خصوصاً المنتمين إلى النادي ممّن كانوا يأملون طيّ صفحة الخلاف بما يعزّز الحق في الرأي والتعبير، في ظل بقاء سيف المحاكمة التأديبية مسلطاً على رقابهم.
وكان الجباري وهو قاضٍ في المحكمة الابتدائية في مدينة القنيطرة غربي البلاد، قد كتب تدوينة عبّر فيها عن موقفه من بعض الجوانب البروتوكولية في حفل تخرّج الفوج 41 من القضاة في مايو/ أيار من عام 2018. وبينما أعرب عدد من القضاة المتضامنين مع الجباري وزملائه من "قضاة الرأي" عن استيائهم من الاستدعاء إلى المحاكمة التأديبية لما لها من "تداعيات سلبية على حرية التعبير في الوسط القضائي المنصوص عليها في الدستور"، أبدى نادي القضاة استغرابه من تحريك المتابعات في غياب تام لأيّ متضرر من هذه التدوينات وعدم وجود مشتك منها. وأشار في بيان له، إلى أنّ المتابعات تجري في غياب تام لأي نقاش تشاركي جدي وفعال حول مدوّنة الأخلاقيات القضائية، على الرغم من مرور أربع سنوات على تاريخ تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي ألزمه المشرّع، طبقاً للمادة 106 من القانون المنظم، بضرورة إصدارها بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة.
تجدر الإشارة إلى أنّ نادي قضاة المغرب الذي تأسس في سياق الحراك السياسي الذي عرفه المغرب سنة 2011، ولم ينل الاعتراف القانوني بوجوده إلا بعد معركة قضائية، إذ رفضت وزارة الداخلية في البداية الترخيص له. ويرى رئيسه عبد اللطيف الشنتوف أنّ "لا أحد منا يتمنى أو يحب أن يفعل ويسعى إلى المحاكمات التأديبية لا سيّما إذا تعلقت بالرأي، لأنّ الخاسر فيها واحد بصيغة الجمع وهو القضاء الذي يجمعنا جميعاً أفراداً ومؤسسات. لذلك لطالما رددت في كلّ مناسبة، بما فيها تلك اللقاءات التي جمعتنا بمسؤولينا المحترمين بمعية المكتب التنفيذي للنادي أو بتفويض منه، أنّ معالجة مواضيع حرية التعبير والعمل الجمعوي لا ينبغي أن تكون عبر آلية التأديب لعدم فائدته ولأنّه لا يحل المشاكل بل يزيدها إشكالاً ويؤجلها ليس إلا". يضيف عبد اللطيف أنّ "الحل يجب أن يكون في النقاش والتشارك للوصول إلى تحديد للمفاهيم (واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية...)، على أن يكون الفيصل في ذلك سقف الدستور والقانون وأفضل التجارب المعتمدة في تفسيرهما".
وبمقتضى الإصلاحات القضائية الجديدة في المغرب، صار قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية ينظّم بشكل مفصل إجراءات المتابعة التأديبية للقضاة، إذ ينصّ على أنّ الرئيس المنتدب للمجلس يبلّغ القاضي المعني ما نسب إليه من إخلال وباسم القاضي المقرر في قضيته. ويقوم هذا الأخير بإجراء كلّ الأبحاث والتحريات الضرورية، بما فيها الاستماع إلى القاضي المعني بالأمر وكلّ من يرى فائدة في الاستماع إليه، ويعدّ تقريراً مفصّلاً يودعه بالأمانة العامة للمجلس الذي يقرر بعد اطلاعه على تقرير القاضي المقرّر، إمّا إصدار قرار بالحفظ وإمّا إحالة القاضي المعني إلى المجلس إذا تبيّن له جدية ما نسبه إليه. وتنصّ المادة 111 من الدستور المغربي الجديد، والتي تُعَدّ واحداً من أهم مكاسب الدستور على الصعيد القضائي في البلاد، على أنّ "للقضاة الحق في حرية التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية". لكنّ الإشارة تجدر إلى أنّ تطبيق هذه المادة يطرح إشكالات عند تعريف التحفظ والأخلاقيات القضائية.
من جهته، يقول رئيس العصبة المغربية لحقوق الإنسان، عادل تشكيطو، لـ"العربي الجديد " في هذا الإطار، إنّ "قرار استدعاء القضاة للمثول أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بسبب تعبيرهم عن آرائهم في فضاءات مهنية مغلقة، مطعون في حجيته، إذ إنّه منافٍ لمضمون الدستور، خصوصاً مقتضيات الفصل 25 منه الذي يؤكد ضرورة حماية الحق في التعبير لكلّ المواطنات والمواطنين المغاربة، وكذلك للمادة 111 من الدستور". ويلفت الناشط الحقوقي إلى أنّ "للقاضي الحق في حرية التعبير من دون تقييد، وأنّ واجب التحفظ مرتبط فقط بعمل القاضي مثل سرية المداولات وغيرها ممّا له ارتباط بالملفات المعروضة عليه، استناداً إلى ما تضمنته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، خصوصاً العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في فصله 19، وكذلك المادة الثامنة من مبادئ أساسية بشأن استقلال السلطة القضائية التي منحت الحق للقضاة كغيرهم من المواطنين في التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمع".
ويرى تشكيطو أنّه "بالإضافة إلى كون القرار التأديبي يُعَدّ لادستورياً بالاستناد إلى مضامين الفصول الدستورية، ومنافيا للقيم الدولية المعمول بها في مجال حرية التعبير وضمان استقلالية القاضي، فإنّ من شأنه تحجيم دور القاضي كفاعل أساسي في المجتمع وكذلك لجم صوته وكبح أحد حقوقه، على الرغم من أنّه في الوقت نفسه إحدى الدعامات الأساسية لترسيخ الحقوق". ويوضح أنّ "تأديب القضاة الذين يعبّرون عن آرائهم يزيد من طول يد المجلس الأعلى للسلطة القضائية على حق القضاة، كما يزيغه عن دوره المتجلي في ضمان استقلالية القضاء وتحطيم قلاع الفساد والحرص على تنفيذ القانون".
ويأتي ذلك في وقت أصدر فيه المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الأسبوع الماضي، "مدوّنة الأخلاقيات القضائية" التي تتضمّن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعيّن على قضاة المغرب الالتزام بها في أثناء ممارستهم مهامهم ومسؤولياتهم القضائية. وبموجب المدونة، التي دخلت حيّز التنفيذ بعد نشرها في الجريدة الرسمية، فإنّ قيوداً عدّة وُضعت على استخدام القضاة لوسائل التواصل الاجتماعي، من بينها التزام القاضي بدرجة عالية من الحذر عند التعبير عن آرائه ومواقفه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أفصح عن صفته القضائية أم لا، وسواء تعلق الأمر بالشأن القضائي أم بحياته الخاصة أم بأي شأن آخر. كذلك يجب الابتعاد عن كل ما هو مسيء لسمعة القضاء أو يمس باستقلال ونزاهة وحياد القاضي، عند استخدامه وسائل التواصل الاجتماعي، ومراعٍ المكانة الاعتبارية للقضاة سواء في الكتابات أو التعليقات أو الردود، ويشمل ذلك مختلف المعطيات الإلكترونية المتداولة كالصور والأشرطة المصورة وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، منعت المدوّنة القضاة من الدخول في مواقف وسجالات علنية عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع أيّ كان، لا سيّما مع مساعدي القضاء بشكل يمس بصورتهم ويخدش صورة وهيبة القضاء أو يؤثّر سلباً على الثقة المتبادلة المفروضة بين القضاة ومساعدي القضاء.