يدخل علينا رمضان في كل عام حاملاً تذاكر لدخول الغابات، ومانحاً فرصاً للاستمتاع بمنتجات الغابات غير الخشبية باعتبارها مواد أولية لمشروبات ومأكولات لا يتخلى عنها السودانيون حتى في مهاجرهم البعيدة. وهنا تعبق الأسواق والأحياء السكنية الحضرية بروائح خاصة تتصدرها نكهة الآبري أو الحلو مر، العلامة المميّزة لمائدة الإفطار.
كنا ضيوفاً على أحد خبراء الغابات في رمضان الفائت، فقدّم لنا مشروباً، وهو يدرك أنه جديد علينا، وسألنا التعرّف إلى مكوناته باعتماد الذائقة، فتسابقنا في ذكر أسماء ثمار بريّة نادرة ظناً منا أن المشروب مزيج من عدد منها، لكنه فاجأنا بأنها الكرمدودة التي جلب لنا أقراصها الجافة السميكة البُنيّة اللون، وذكر أنها ثمار شجيرة برية تشبه الغوافة، أو الكُمثرى، وتنمو في جبال النوبة الشرقية، جنوب كردفان، ويقوم السكان المحليون بجمعها وعجنها متخمرة، ويصنعون منها الأقراص التي تبقى فترات طويلة دون أن تتغيّر تركيبتها الكيميائية.
يذكر الاختصاصي محمد أحمد النّبِر، نائب مدير غابات القضارف، أن بعض سكان تلك المناطق ينتجون شتولاً لعدد من الأشجار النادرة بغرض بيعها خارج الولاية، لكن الأمر قد يساهم في الحفاظ على هذه الأنواع المهددة بالانقراض جراء النشاطات البشرية الهدّامة.
يؤكد الخبير البروفيسور طلعت دفع الله أن المستخلص الكحولي من ثمرة الكرمدودة يملك مركبات ذات خواص مضادة للتشنُّج ومزيلة للقلق وفق، دراسة أجريت عام 2014. ولعلّ السكان المحليين فطنوا للأمر باكراً لذلك، فقد استخدموا منقوع الكرمدودة لعلاج الالتهابات ونزلات البرد والسعال، والملاريا والدسنتاريا، وارتفاع ضغط الدم، وتحسين الصحة العامة، إلى جانب استخدام عصيرها في أوقات نُدرة الغذاء.
وللمنتجات الغابية غير الخشبية فوائد عظيمة للحياة البرية والسكان المحليين، إذ تضطلع بمهام سد الفجوة الغذائية حتى حصاد المنتجات الزراعية. ويرى فيها خبراء الأمن الغذائي فائدة أخرى تتمثّل في بيع هذه المنتجات لزيادة دخل الأسر الفقيرة، بيد أن القطع الجائر والمتواتر للغابات بات يشكل تهديداً كبيراً لهذا المصدر في ظل ضعف الدور المؤسسي في الحماية، والتغييب القسري لذلك السياج الاجتماعي الذي كان يمثّل خط الدفاع الأول لحماية كافة الموارد الطبيعية، والنادرة منها بشكل خاص، وفقاً لمعارف تقليدية لدى السكان المحليين وقياداتهم الأهلية. إلا أن الحروب والنزاعات، وما تبعها من موجات نزوح وهجرة، وتغيير ديمغرافي هدّدت التنوّع الحيوي بكامله، وقضت على جلّ الموارد الطبيعية، وبالتالي منتجات الغابات غير الخشبية.
هل تختفي أقراص الكرمدودة وثمار السدر والقونقليس والأندراب والخروب والدليب وغيرها؟ أم أن الأمر سيطاول الذاكرة الشعبية نفسها بعد سنوات قليلة قادمة؟ ولماذا لا تتجه دوائر الاستثمار والإنتاج الغذائي الدوائي إلى هذا المضمار بدلاً من إنتاج وتصدير العلف خصماً على الغطاء النباتي والمياه الجوفية؟
(متخصص في شؤون البيئة)