على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع من العزل والحصار، تبدو القدس المحتلة مدينة أشباح شبه خالية من أهلها، خصوصاً سكان الأحياء المتاخمة للبلدة القديمة، فقد وضعتهم قيود الاحتلال الإسرائيلي، التي حددت حركتهم في نطاق ألف متر فقط من مناطق سكنهم، في سجن كبير، بينما أطلقت العنان للمستوطنين ليستبيحوا الشوارع والأزقة القديمة، وليواصلوا اقتحاماتهم اليومية للمسجد الأقصى، في الوقت الذي منع من هم من غير سكان البلدة القديمة من الدخول إلى القدس، وحرموا على مدى تلك الأسابيع من أداء الصلاة في المسجد الأقصى.
من خالفوا تعليمات القيود المشددة على الحركة جرى ضبطهم عند حواجز شرطة الاحتلال على مداخل باب العمود، وباب الساهرة، حيث أقام الجنود تلك الحواجز، وحرروا لمن خرجوا على تعليمات العزل مخالفات وغرامات بالجملة قيمة كلّ منها خمسمائة شيكل (نحو 145 دولاراً أميركياً)، وبعضهم حررت بحقه أكثر من مخالفة، ليس على أبواب البلدة القديمة فحسب، بل حتى على أبواب الأقصى وعلى الحواجز المنتشرة حول المدينة المقدسة بعد عودتهم إلى منازلهم، فتحولت تلك الحواجز إلى مصائد تستنزف أموالهم على قلتها.
عند مدخل باب العمود المغلق بالحواجز تتحدث إلى "العربي الجديد" المواطنة فاطمة جويلس، وهي في أواخر الخمسينيات من مخيم شعفاط، عن منعها من دخول البلدة القديمة والصلاة في الأقصى. تقول جويلس: "بأيّ حق يمنعوننا من دخول البلدة القديمة، ويسمحون للمستوطنين اليهود بدخولها، نحن الأصل، وسكان هذه المدينة قبل أن يخرجونا منها ويرحلونا إلى مخيم شعفاط.... الأقصى حزين يا ناس، لا أحد يقدر الوصول إليه، أين أهل القدس؟ أين شعبنا؟ أين العرب الذين طبّعوا معهم ودعموهم بالمال وبكلّ شيء، لك الله يا شعبنا وحسبي الله ونعم الوكيل".
ولم يسلم من هذا المنع حتى الأشخاص ذوو الإعاقة من المقدسيين من غير سكان البلدة القديمة، كما يقول الشخص ذو الإعاقة الحركية، محمود حجازي، المقيم في حي الشيخ جراح إلى الشمال من البلدة القديمة من القدس، ويقول: "لماذا يمنعوننا من الدخول، من حقنا الصلاة في الأقصى، من حقنا الوصول إليه، حتى نحن مُنعنا، لعنة الله عليهم وعلى الذين طبّعوا معهم من العرب".
عبثاً حاولت "العربي الجديد" الدخول إلى البلدة القديمة من القدس من ناحية باب العمود الذي ازدحمت حواجزه بعشرات من عناصر شرطة وجنود حرس الحدود التابعين للاحتلال. أحد أفراد شرطة الاحتلال تقدم منا وطلب بطاقة الهوية الشخصية وحين أعطيناها له سلمها لزميله، والذي قام بدوره بتدوين ما فيها من معلومات بالاسم ورقم البطاقة والعنوان، وأعادها لنا ثم قال: "ستصلك المخالفة في البريد". سألناه: "ولماذا المخالفة ونحن صحافيون نمارس عملنا، فكان جوابه: أنتم خالفتم تعليمات الحركة، بعدم التواجد على مسافة تزيد عن ألف متر من منطقة سكنكم".
تكرر المشهد مع آخرين وقعوا في مصيدة الحاجز، فإحدى المواطنات الفلسطينيات من مدينة يافا داخل فلسطين المحتلة عام 1948 وصلت إلى القدس في زيارة لشقيقتها بالبلدة القديمة من القدس ومنعت من ذلك، وطلب منها جنود الاحتلال العودة من حيث أتت، وعبثاً حاولت أن تقنعهم.
حتى صلاة الجمعة في الأقصى، لم تسلم من ممارسات الاحتلال، فعشرات المصلين الذين انتظروا طويلاً لم يسمح لهم بالدخول يوم الجمعة الماضي، واضطروا للانتقال إلى ساحة سوق المصرارة حيث أدوا الصلاة هناك واستمعوا إلى إمامهم وخطيبهم الشيخ يعقوب أبو عصب، الذي دعاهم في خطبة الجمعة إلى الرباط الدائم، وألا يتركوا الأقصى وحيداً، وحثهم أيضاً على الصبر والثبات، وأكد لهم أنّ صمودهم في القدس ورباطهم على أبوابها هو الضريبة التي يدفعها كلّ مقدسي، وهي حتماً في ميزان حسناتهم يوم القيامة.
سوق المصرارة، هو السوق الوحيد الذي يسمح للتجار فيه يوم الجمعة بفتح أبوابه، لكنّ الحركة التجارية هناك ضعيفة جداً، فالمتسوقون الذين اعتادوا الوصول إلى السوق في كلّ يوم جمعة لم يعد لهم وجود، لحذرهم من المخالفات والغرامات المالية التي تثقل كواهلهم. وفي هذا السياق، ما كاد المصلون يختمون صلاتهم هناك، حتى داهم السوق أفراد شرطة الاحتلال وشرعوا في تحرير الغرامات المالية بحجة عدم الالتزام بالكمامات.
هذا الواقع الصعب الذي تعيشه مدينة القدس، يتحدث عنه بإسهاب حجازي الرشق، رئيس لجنة التجار في شارع صلاح الدين، الذي يملك متجراً هناك لبيع العصائر، يتاخم مطاعم اضطر أصحابها إلى إغلاقها على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية. وفي حديثه إلى "العربي الجديد" يقول الرشق: "حتى أصحاب المحال داخلها معرضون لعقوبة المخالفة والغرامة المالية إن ضبط فيها زبون لم يضع كمامة، أو إن تخلى صاحب المحل عنها لبعض الوقت. بطبيعة الحال لا يحدث مثل هذا في الشطر الغربي من القدس حيث التجمعات اليهودية الكبرى، وحيث المحال التجارية مفتوحة، والحركة فيها اعتيادية فلا يلاحَقون هناك بتهمة عدم الالتزام بالكمامة أو التواجد بعيداً عن مناطق سكنهم".
لكنّ الوضع الأكثر خطورة يتعلق بالبلدة القديمة من القدس التي تشهد أسواقها وقطاعاتها المختلفة حالة من الانهيار غير المسبوق بفعل إجراءات الحصار والعزل المفروضة عليها، إذ يقول الرشق: "كثير من التجار وأصحاب المحال على وشك إعلان إفلاسهم، منذ بدء جائحة كورونا وحتى اليوم هم في انتكاسات يومية، فأكثر من 450 محلاً تجارياً اضطر أصحابها إلى إغلاقها، ولا أحد يعوضهم عن خسائرهم تلك، فالاحتلال هناك يكيل بمكيالين، إذ يدعم رعاياه بالحوافز والمساعدات ويقدم لهم كلّ مظاهر المساندة، فيما يحجب هذه المساعدات عن التجار المقدسيين، وتستمر حملات الملاحقة والدهم الضريبي، ومخالفات السير التي لا تتوقف شرطة الاحتلال عن تحريرها للتجار والمواطنين".
ولا يخفي الرشق في المقابل، استياءه من غياب خطة دعم استراتيجية فلسطينية تستهدف سكان المدينة المقدسة مواطنين وتجاراً، ويقول: "الحلول الترقيعية المؤقتة لا توفر وسائل صمود مناسبة للمواطنين في القدس، فالناس هنا بحاجة لمن يساندهم ويدعمهم ليثبتوا ويصبروا".
حتى أصحاب المحال داخلها معرضون لعقوبة المخالفة والغرامة المالية
داخل أسوار البلدة القديمة من القدس، يؤكد التاجر خالد الصاحب، الذي يملك متجراً للملابس في شارع الواد بالبلدة القديمة، أنّ أسواق المدينة المقدسة تحولت إلى مساكن للأشباح. ويشير الصاحب إلى شارع الواد؛ أحد شرايين الحياة الرئيسية داخل البلدة القديمة والمفضي إلى المسجد الأقصى، وقد انعدمت الحركة فيه على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، ويقول: "لقد انخفض عمل المحال في البلدة القديمة بنسبة 80 في المائة، وغالباً ما نتعرض لمضايقات شرطة الاحتلال، وقد حدث ذات مرة أنّ أحد أفراد شرطة الاحتلال هددني بتحرير مخالفة بقيمة 500 شيكل (نحو 145 دولاراً أميركياً)، إن لم أترك المكان، فقد منعني من دخول البلدة القديمة والوصول إلى محلي، بالرغم من أنّ في حوزتي شهادة وتصريحاً بملكيتي للمحل في شارع الواد". تحول الوصول إلى البلدة القديمة والصلاة في الأقصى على مدى أسابيع حصاره الماضية إلى حلم وأمنية لكثير من المقدسيين القاطنين خارج أسوار البلدة القديمة، ويقول الصاحب: "نعم بات ذلك أمنية وحلماً، الاحتلال يشن علينا حملة غير مسبوقة، فهو يمنعنا من أبسط حقوقنا في العمل وحرية العبادة، بينما يتغاضى عن مستوطنيه ولا يفرض عليهم القيود التي يفرضها علينا".
والأصعب على قلوب المقدسيين القاطنين خارج أسوار البلدة القديمة كان حرمانهم للأسبوع الثالث من الصلاة في المسجد الأقصى. تقول دائرة الأوقاف الإسلامية على لسان مدير المسجد الأقصى الشيخ عمر الكسواني لـ"العربي الجديد": "أعداد المصلين في الجمعة الثالثة من الحصار لم تتعدَّ الألف، في مقابل عشرات الآلاف في الأيام الاعتيادية، لكنّ هذا الحرمان من دخول الأقصى حتى لبعض سكان القدس القديمة، لم يشمل المستوطنين الذين واصلوا استباحتهم للمسجد". يتابع الكسواني: "مع كلّ يوم يمرّ على القدس في حصارها وعزلها يتصاعد غضب المقدسيين على دول التطبيع العربية ويصفون هذا بأنّه تحالف يتجاوز علاقات التطبيع، بينما ترتفع وتيرة غضب الفلسطينيين عموماً مما يصفونه تجنّي أبواق تلك الأنظمة الخائنة في نظرهم على الشعب الفلسطيني وعلى مناضليه".
في هذا السياق، يقول الكاتب والمحلل الإعلامي والسياسي راسم عبيدات: "القدس مغلقة، وطقوس تلمودية توراتية في شارع الواد وعلى بوابات الأقصى في ما يسمى بعيد العرش اليهودي، وعربان لم يبقوا لإسرائيل براً ولا بحراً ولا جواً إلاّ وفتحوه أمام المحتل".