كشفت حصيلة نشرتها وزارة الصحة العراقية أخيراً أن 11 مواطناً على الأقل قضوا في العواصف الترابية التي ضربت البلاد خلال الشهرين الماضيين، غالبيتهم من كبار السن وأصحاب أمراض تنفسية، وأعلنت أن حوالي 10 آلاف شخص تلقوا العلاج في مستشفيات.
ويحمّل خبراء البيئة الحكومات المتعاقبة جزءاً كبيراً من مسؤولية هذا الواقع نتيجة عمليات جرف الغطاء الأخضر، وسوء إدارة أزمة المياه التي تسببت في موجة جفاف حادة، ويتحدثون عن ضعف الخبرات في التعامل مع تحديات التغير المناخي.
وعلى الرغم من أن هذه العواصف تضرب دولاً عدة في المنطقة، وتحدث أضراراً مماثلة لتلك في العراق، ما يعني أنّ الحالة عامة بتأثير الظروف البيئية السائدة في العالم على صعيد ارتفاع درجات الحرارة والجفاف، يعتقد العراقيون ومتخصصون في البيئة بأن الجهات الحكومية يمكن أن تقلل تأثير هذه العواصف، ويتهمونها بالتالي بالإهمال وعدم المبالاة. يقول الخبير البيئي فائز العبيدي لـ"العربي الجديد": "سيستمر ارتفاع عدد العواصف الترابية في العراق في ظل المعاناة من جفاف يزداد مع انخفاض نسبة الأمطار التي تهطل منذ سنوات". ويشرح أن "العواصف الترابية تتشكل من مرور الرياح في مناطق صحراوية، أو تحرك التربة بتأثير عدم وجود غطاء نباتي، ما يحمل الغبار من هذه المناطق إلى أخرى تتجه نحوها". ويلفت العبيدي إلى أنّ "هذه العواصف ليست جديدة، لكنها كانت أقل تأثيراً أو انعدم تأثير غالبيتها كونها لا تحمل أتربة أو قليلاً منها فقط. وقد زادت نسبة الأتربة التي تتضمنها العواصف الهوائية في الأعوام الأخيرة نتيجة تهيّج التربة في الصحارى والمناطق القروية ومناطق الرعي".
نتائج بشرية
ويؤكد أن أبرز أسباب الظاهرة تتمثل في الاعتداء على الغطاء النباتي وتعمّد تدمير البيئة الذي نتج أيضاً من الحملات العسكرية التي استدعت جرف القوات الأمنية آلاف الهكتارات من البساتين والأراضي الزراعية في مناطق عدة بالبلاد خصوصاً في محيط العاصمة بغداد من أجل ملاحقة المسلحين، ما حوّلها إلى أراضٍ قاحلة. كما هجر مزارعون أراضيهم نتيجة قلة المياه التي تخصصها الحكومة لمشاريعهم، وشعورهم بانعدام فائدة استثماراتهم، باعتبار أنّ المحاصيل المستوردة من الخارج تباع بأسعار أقل من نظيرتها المحلية. وهذه كلها نتائج بشرية تتحملها الجهات الحكومية".
وإلى تلك البشرية، ترفع، بحسب العبيدي، أسباب طبيعية نسبة الأتربة في العواصف الهوائية، وبينها الجفاف الناتج من عدم هطول الأمطار طوال أعوام، والذي يزيد رقعة التصحّر، علماً أنّ المناطق الصحراوية خصوصاً في غرب العراق تضمنت مساحات كبيرة مغطاة بالنباتات الصحراوية التي تمسك التربة، لكنّ شحّ الأمطار منع نمو وتكاثر نسبة كبيرة منها، وتسبب في زوالها".
وفيما تتعدد الأسباب البيئية الطبيعية التي تطلق عواصف ترابية توصف بأنّها "مميتة"، يعتقد العراقيون بأنّ الحكومات المتعاقبة التي تقود البلد منذ نحو عشرين عاماً جلبت القسم الأكبر من الأضرار التي يعانون منها على صعيد العواصف الترابية "بسبب الإهمال الكبير في الاستغلال الأكثر مثالية للمياه والشمس والهواء والتربة" وفقاً لما يقول عضو رابطة المهندسين الزراعيين في محافظة الأنبار، جاسم الدليمي لـ"العربي الجديد". يضيف: "يمكن أن تساهم دراسات وبحوث عدة قدمها مهندسون وخبراء في الزراعة والمياه والبيئة والجيولوجيا إلى الجهات الحكومية في تخفيف أضرار العواصف الترابية، وتقليل الغبار بنسب عالية، وأيضاً في زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية وتوفير الطاقة الكهربائية، واستحداث فرص عمل للعاطلين، وتعزيز استغلال الطاقة البديلة عبر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح التي تساهم في إنشاء منظومات للريّ الحديث تمهيداً لزرع ربع المناطق الصحراوية بالبلاد، وذلك باعتماد كميات قليلة جداً من المياه، سواء من مصادر جوفية أو سدود لتخزين مياه الأمطار. ويشير أيضاً إلى طرح دراسات لتعزيز هطول الأمطار تسمح باستصلاح أراض وزرعها، وإعادة الغطاء النباتي".
على حساب البلد والشعب
لكنّ الدليمي يتهم بعض المؤسسات الحكومية بعدم الوطنية كونها تخضع لسيطرة الأحزاب التي تعمل لتحقيق منافع مؤقتة تخدم مصالح قادتها على حساب البلد والشعب". وما تحدث عنه العبيدي والدليمي يكبد العراق وسكانه خسائر كبيرة وصولاً إلى الأرواح. وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة للوفيات السنوية الناجمة عن الاختناقات بسبب العواصف الترابية، لكن مسؤولاً في دائرة صحة منطقة الرصافة ببغداد، طلب عدم كشف هويته، يقول لـ"العربي الجديد" إن "الخسائر المتكررة ترتبط بقوة العاصفة الترابية الشديدة جداً أحياناً، والتي قد تستمر أياماً".
وأورد تقرير نشرته المنظمة الدولية للصليب الأحمر العام الماضي أنّه "خلال الفترة الممتدة بين عامي 1951 و1990، كان المعدل الوسطي السنوي للعواصف الترابية في العراق محدداً بواحدة كلّ 24 يوماً مقارنة بـ 122 يوماً عام 2013". وتشير إحصاءات نشرتها الهيئة العامة للأرصاد الجوية إلى أنّ عدد الأيام التي تشهد أجواء مليئة بالغبار زاد تدريجياً منذ عام 2013.
وحول الخسائر التي يتكبدها العراق من العواصف الترابية، يقول الخبير الاقتصادي محمد الحسني لـ"العربي الجديد" إنّها "كبيرة للغاية، بينها توقف حركة الملاحة في المطارات والموانئ، وتعطل أعمال المواطنين وحركة السير والأسواق والدوائر الحكومية"، ما يلحق خسائر بملايين الدولارات بالبلاد والقطاع الخاص والمواطنين".
واللافت أنّ عراقيين كباراً في السن يتذكرون أيام الطقس الجميل الذي كانوا يعيشونه خلال فترتي الربيع والخريف، وليالي الصيف التي يصفونها بأنّها "مثالية"، وبينهم الموظف المتقاعد في العقد الثامن من العمر مهدي عبد الجبار الذي يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "الغبار الذي ينتشر في الجو في شكل مستمر يمنعه من مزاولة أشياء يحبها، مثل الذهاب إلى المسجد مشياً، والخروج مساءً إلى المقهى والنوم فوق سطح المنزل في الليل".