العراق: الفصل العشائري تجارة بحق المظلوم

25 اغسطس 2022
يحكم الطابع القبلي العراق بقوة (حيدر حمدان/ فرانس برس)
+ الخط -

اتسعت ظاهرة "الفصل العشائري" أو "الكوامة" بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما أعقبه من ضعف الدولة ومؤسسات القضاء وأجهزة الأمن. وهي تعالج اليوم مشاكل جرائم قتل جنائية وحوادث سير ومشاحنات فردية وعراك، وتلك التي تتعلق بنزاعات على الأراضي والري وخلافات تاريخية. ويحصل "الفصل" في قضية بين عشيرتين لدى طرف ثالث أو حتى بينهما، من أجل التوصل إلى اتفاق ينهي المسألة، وهو ما يتم عادة عبر دفع مبالغ مالية.
واللافت أن هذه المبالغ تضاعفت وصولاً إلى أكثر من مليار دينار عراقي (يساوي الدولار الواحد نحو 1450 ديناراً عراقياً)، ما أظهر قوة وسلطة العشائر التي تنافس أحياناً كثيرة القضاء في حل المشاكل والنزاعات، خصوصاً في مناطق مدن الجنوب والوسط والعاصمة بغداد. ويزيد ذلك عمق أزمة الهوية المدنية التي يطالب بها العراقيون.

قضايا وناس
التحديثات الحية

ويُعد العراق بالتالي بين البلدان العربية التي يحكمها الطابع القبلي بقوة وتضاعفت مرات بعد عام 2003، لدرجة أن القبلية باتت تنافس سلطة الدولة في مناطق كثيرة، في ظل وجود سباق تسلح غير خفي بينها، إلى جانب سباق التسلح بين الفصائل المسلحة. وينتج ذلك من ضعف القضاء والمنظومة الأمنية التي يفترض بها حماية المواطنين.
يقول محمد الجابر، أحد وجهاء جنوبي العراق، لـ"العربي الجديد": "تحوّلت الفصول العشائرية، خصوصاً في الجنوب، نتيجة حالة التعصب القبلي، من الدفاع عن المظلوم وأخذ الحق من الظالم إلى تجارة رابحة ومهنة لكثير ممن يدعون المشيخة". يضيف: "أصبح قسم من الفصول العشائرية أشبه بأتاوات مالية مفروضة، فالقيمة المحددة لفض مشكلة بين طرفين متخاصمين هي مبالغة ضخمة جداً، كما أن بعض الأحكام الصادرة غريبة، مثل تزويج نساء من عشيرة المدان لعشيرة الضحية لقاء تنازل عن حقه في ما يعرف بالفصلية". ويخبر أن "المشايخ الأصليين يرون أن الفصل العشائري يطبق لحل النزاعات والتخفيف عن كاهل الدولة، باعتبار أن العراق مجتمع عشائري يعتبر تدخل الشيوخ واجباً فيه لحلّ النزاعات بين المتخاصمين، بما يرضي الله، بخلاف ما يقوم به محسوبون على شيوخ العشائر". ويرى أنّ "كثرة الشيوخ الجدد بعد عام 2003 والذين يطلق عليهم العراقيون تسمية شيوخ الطلايب، وممارسة بعض الأحزاب والجماعات المسلحة سلطاتها للضغط على أحد أطراف النزاع بغرض الابتزاز وكسب المال الحرام، ساهما في تأخر إجراءات كثيرة للترافع والفصل بين الناس، وإبرام صلح بينهم".
ويجري الفصل العشائري عادة بعد مفاوضات طويلة ومعقدة بين المتنازعين، وفي حضور مشايخ من الطرفين ووجهاء وشيوخ قبائل أخرى للوصول إلى تسوية مناسبة تضمن حقوق المتخاصمين. وتشمل المفاوضات دفع مبالغ مالية كبيرة كعقوبة من أجل الحيلولة دون تكرار النزاعات، وفرض هيبة عشيرة على حساب أخرى. ويقول عضو مجلس شيوخ عشائر شمالي بغداد، الشيخ عباس حسن الصجري، لـ"العربي الجديد": "تحديد مبالغ كبيرة للفصول العشائرية التي تحدث ليست من خصال العشائر العراقية العربية الأصيلة"، لافتاً إلى زيادة حال التفكك المجتمعي والعشائري الذي شهده العراق بعد عام 2003.
ويعزو الصجري سبب انتشار ظاهرة دفع المبالغ المالية الكبيرة الخاصة بالفصول العشائرية، حتى لتسوية المشاكل الأكثر بساطة، إلى انتشار السلاح المتفلّت، وعدم ملاحقة المجرمين، وضعف الحكومات المتعاقبة بعد احتلال العراق، إلى جانب نشر وقائع جلسات كثيرة من هذه الفصول على مواقع التواصل الاجتماعي، ما شوّه تقاليد العشائر العراقية الأصيلة".

مهن لأشخاص يدعون المشيخة في "الفصول العشائرية" بالعراق (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
مهن لأشخاص يدعون المشيخة في "الفصول العشائرية" بالعراق (أحمد الربيعي/ فرانس برس)

ويرى الصجري أن "بعض الجرائم التي يرتكبها خارجون عن القانون تستحق فرض عقوبات مالية كبيرة، لكن تحديد فدى بمئات الملايين من الدنانير لمشاكل وقضايا يمكن حلها بالصلح والتراضي أو بمبالغ نقدية بسيطة، لا يظهر حسن نوايا طرفي النزاع".
وينتقد الصجري "ظهور شيوخ العشائر في أشرطة فيديو تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يصرخون ويتوعدون بحرق وهدم بيوت الناس، ويستعرضون أسلحتهم وقوتهم نتيجة مشاجرات تافهة جداً".
من جهته، يقول المحامي عبد الله أحمد لـ"العربي الجديد": "لا يرفع المواطنون دعاوى أمام القضاء في حال جرى ابتزازهم أو تهديدهم، لأنهم يعتقدون بأن هذا الجهاز غير قادر على محاسبة المجرمين الذين ينتمون إلى عشائر قوية أو جماعات مسلحة، أو تأمين حماية سريعة وبقدر كافٍ لهم. وهم يرون أن سلطة العشائر أقوى من سلطة الدولة، خصوصاً في مناطق الجنوب".
يضيف: "يعجز القضاء والقانون عن التعامل مع حوادث شهدها العراق أخيراً، خصوصاً تلك التي تتعلق بقضايا عشائرية، ما يدفع عائلات متضررة من مشاكل تتعلق بعمليات خطف أو قتل أو جرائم شرف إلى اللجوء إلى القانون العشائري".
ويشير إلى أن "عدداً كبيراً من المواطنين الذين لا ينتمون إلى عشائر لا يقصدون محاكم ومكاتب محاماة، بل يطلبون شفاعة ومعونة شيخ أو وجيه عشيرة، أو شيخ يدفعون له أموالاً لتجنيبهم الاستضعاف في قضاياهم".

وقد شهد العراق أخيراً نزاعات عشائرية عدة باتت بين أهم المشاكل التي واجهت حكام البلاد على مدى تاريخ الدولة، ما شجع الحكومات المتعاقبة على ضم العشائر إلى العملية السياسية وإشراك أفرادها في القرار السياسي. وسُمح لها بالتسلح أيضاً، والمشاركة في الأحزاب والسلطة وامتلاك نفوذ سياسي.

المساهمون