يبدو أنّ تداعيات النمو الاقتصادي ما زالت تلقي بظلالها على المجتمع الصيني الذي بات عرضة لأزمات متتالية، بعدما تحول أفراد المجتمع، بموجب نمط الحياة الصناعية، إلى مجرد أدوات إنتاج، لا يقيمون وزناً كبيراً للقيم والمشاعر الإنسانية. ويظهر ذلك من خلال تفكك الروابط الأسرية والاجتماعية، ليس فقط بسبب العزوف عن الزواج أو الإنجاب، بل أيضاً بسبب ارتفاع معدلات الطلاق ووصولها إلى مستويات قياسية. وأظهرت أرقام حديثة صادرة عن وزارة الشؤون المدنية، أنه حتى منتصف العام الجاري، تم تسجيل نحو مليون حالة طلاق في عموم البلاد، بينما بلغ عدد الزيجات 4.166 ملايين زيجة خلال الفترة نفسها، ما يعني وصول نسبة الطلاق بين المتزوجين إلى 24 في المائة.
ومن المتوقع، بحسب محلّلين، أن تصل حالات الطلاق في الصين إلى 2.8 مليون في نهاية العام الجاري، إلى جانب استمرار عزوف الشباب عن الزواج، ما يشير إلى احتمال ارتفاع نسبة الطلاق إلى الضعف. ويذكر أنه في عام 2020، بلغت حالات الطلاق 3.73 ملايين حالة، بينما بلغ عدد تسجيلات الزواج في العام نفسه 8.13 ملايين.
ويعزو خبراء ارتفاع نسب حالات الطلاق إلى استقلال النساء المادي، والتباعد الجغرافي بين الأزواج بسبب ظروف العمل وفترات الغياب الطويلة، وكذلك إصرار أحد الطرفين على عدم الإنجاب، ما يعكر صفو العلاقات الزوجية ويهز أساسها العاطفي، في وقت اعتبر آخرون أن الأمر له علاقة بانعدام حس المسؤولية عند الزوج بسبب شح المشاعر الإنسانية والأنانية المفرطة، وهي إحدى سمات المجتمعات الرأسمالية التي بدأت تظهر في دولة تقدم نفسها على أنها رائدة الاشتراكية في العالم.
ويقول المحامي لياو رونغ، لـ"العربي الجديد"، إنّ استقلال المرأة المادي هو أحد الأسباب الرئيسية للطلاق في الصين، مشيراً إلى أن أكثر من 65 في المائة من إجمالي دعاوى الطلاق التي تلقاها مكتبه في العاصمة بكين خلال العام الحالي، رفعتها الزوجة، بينما لم تتجاوز نسبة الدعاوى التي تقدم بها الزوج 20 في المائة. أما النسب المتبقية، فكانت لدعاوى حُرّرت بالتوافق بين الزوجين.
ويوضح أن التنمية الاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال العقود الماضية، أتاحت للمرأة فرصة التحصيل العلمي ومتابعة الدراسات العليا، الأمر الذي مكنها من دخول سوق العمل ومزاحمة الرجل في كافة المجالات. لذلك، باتت تشعر بأنها ليست أقل منه شأناً، وبالتالي رفض فكرة الخضوع والهيمنة الذكورية، الأمر الذي يجعلها لا تتردد في طلب الطلاق عند أول صدام مع الزوج.
كما يذكر أسباباً أخرى، منها ظروف العمل التي تحتم على الأزواج الانفصال لفترات طويلة، بالإضافة إلى تكاليف الإنجاب والرعاية المرتفعة، ما يحول دون إنجاب أطفال، ويسهل عملية الطلاق، باعتبار أن الأبناء هم الضمانة الوحيدة لاستمرار العلاقات الزوجية حتى وإن كانت مضطربة.
من جهته، يقول الباحث في مركز "شين جن" لفض النزاعات الاجتماعية تيان شانغ إن التحولات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع دفعت العديد من الشباب إلى الانجذاب للقيم الغربية المتحررة. ويقول لـ"العربي الجديد"، إن الزواج هو أساس الأسرة الصغيرة ونواتها الأولى، ويعزز الشعور بالانتماء لشيء ما ذي قيمة، كما تساهم العلاقات الأسرية المتناغمة في الاستقرار الاجتماعي. ولكن خلال السنوات الأخيرة، ومع وجود خيارات متعددة، بات الشباب يفضلون حياة العزوبية، حتى المتزوجون منهم بدأوا يتجهون نحو الطلاق.
يضيف أن هذا التوجه من شأنه أن يهدد مفهوم الأسرة الصينية، ويتسبب في انقطاع سلالات العائلات، وخصوصاً أسر الطفل الواحد التي تتكون من ثلاثة أفراد فقط، موضحاً أن عزوف هذا الطفل الذي يمثل الجيل الثالث عن الزواج، يعني على المدى البعيد اختفاء الأسرة من السجلات المدينة بعد وفاة الجد والجدة (الجيل الأول)، ودخول الجيل الثاني من الآباء في سن اليأس.
وأثار تزايد حالات الطلاق في الصين قلق السلطات، وخصوصاً أن ذلك تزامن مع حث الحكومة السكان على إنجاب المزيد من الأطفال لتجنب قنبلة ديموغرافية موقوتة. ولمواجهة هذه الظاهرة، أقرت السلطات التشريعية قانوناً جديداً في مطلع العام الحالي، يلزم الأزواج المقبلين على الطلاق التريث لمدة 30 يوماً، في ما عُرف بفترة هدنة، قبل أخذ القرار النهائي على أمل إصلاح ذات البين.
وبموجب القانون المدني الجديد، يحق للزوجين سحب الالتماس، في حال إعادة النظر بمسألة الطلاق وحل الخلافات بينهما. وعلى الرغم من أن الهدف هو حث المتزوجين على التفكير ملياً قبل الإقدام على الطلاق، فإن القانون واجه انتقادات شديدة من نشطاء وحقوقيين اعتبروا أنه يعيق الحريات الشخصية ويلزم الأزواج بعلاقات غير ودية قد تكون عنيفة وتنجم عنها أضرار لأحد الطرفين. إلا أن مسؤولين حكوميين دافعوا عن القانون باعتباره ضمانة لاستقرار الأسرة والنظام الاجتماعي في البلاد، من خلال قدرته على الحد من قرارات الطلاق التي تأخذ في لحظة تهور وغضب.
وفي إطار مكافحة الحكومة لهذه الظاهرة، شرّع قانون آخر يمنع تسجيل الطلاق في الدوائر الحكومية في اليوم العشرين من مايو/ أيار من كل عام، الذي يصادف عيد الحب وفق التقويم الصيني.
وكان خبراء قد حذروا في وقت سابق، من أن ارتفاع معدلات الطلاق إلى جانب انخفاض الإقبال على الزواج والإنجاب، سيؤثران على معدل المواليد الجدد، والذي بدوره سينعكس على تطور الصين الاقتصادي والاجتماعي، وطالبوا وسائل الإعلام بإبراز هذه القضية وإيلائها المزيد من الأهمية نظراً لخطورتها، كما حثوا صنّاع القرار على تحسين السياسات الاجتماعية ذات الصلة وتعزيز جهود الدعاية لتوجيه الشعب وتأسيس قيم إيجابية حول مفهوم الزواج والأسرة.