ليست مشكلة الرعاية الصحية في المملكة المتحدة وليدة اللحظة، وساهمت عوامل عدة في تفاقمها، لكن ارتفاع أعداد المسافرين إلى الخارج لتلقي العلاج، يشير إلى تآكل القطاع الصحي البريطاني الذي يعاني من ضغوط شديدة، بخاصة بعد جائحة كورونا، وقبلها الخروج من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أدى إلى نقص كبير في القوى العاملة.
تظهر أحدث الأرقام الصادرة عن مركز "خدمة الصحة الوطنية"، أن 7.19 ملايين شخص كانوا ينتظرون العلاج خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فضلاً عن وجود أكثر 575 ألفاً ممن ينتظرون لأكثر من عام كامل، كما تظهر الأرقام أنّ هناك أكثر من 600 ألف مريض ينتظرون دورهم للحصول على الرعاية الصحية في اسكتلندا، إضافة إلى ما يقارب 750 ألفاً في ويلز.
خلال العام الماضي، كان واحد من بين كل ستة بالغين في المملكة المتحدة بحاجة ماسة إلى الفحص الطبي أو العلاج، ولم يتمكن من الوصول إليه، وهذا المعدل هو الأسوأ في قارة أوروبا، وتقريباً ثلاثة أضعاف المتوسط في الاتحاد الأوروبي.
ونقص الكادر الطبي ليس محصوراً بالمستشفيات، بل امتد ليشمل قطاع الصحة النفسية، وحسب بيانات جمعتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" فإنّ المرضى النفسيين الذين يفكرون بالانتحار في إنكلترا يتعرضون لخطر جسيم، إذ لم يُردّ على واحدة من بين كل خمس مكالمات وصلت إلى خطوط المساعدة التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية، وخلال العام الأخير، لم يُردّ على 418 ألف مكالمة، وهذا الواقع أجبر العديد من البريطانيين على البحث عن بدائل طبية في خارج المملكة المتحدة.
لم تكن الجائحة هي السبب الرئيسي وراء تفاقم مشكلات الرعاية الصحية، بل كانت المؤسسات تعاني من المشاكل منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حينها انخفض عدد العاملين في القطاع الصحي إلى أكثر من 87 في المائة، وقبل الجائحة، في فبراير/شباط 2020، كان هناك ما لا يقل عن 4.43 ملايين مريض على قوائم انتظار الرعاية الصحية، وما لا يقل عن 87 مليون مريض ظلوا ينتظرون العلاج لأكثر من 18 أسبوعاً، وفي المتوسط، فإنّ على المريض انتظار ما لا يقل عن 14 أسبوعاً لتلقي العلاج.
وإضافة إلى نقص الأيدي العاملة، فإن ارتفاع الأسعار ساهم أيضاً في إجبار بعض البريطانيين على السفر إلى الخارج للعلاج، وتحديداً إلى المجر، وبولندا، وليتوانيا، أو تركيا، وحسب بيانات الجمعية الطبية البريطانية (BMA)، فإنّ ما لا يقل عن 35 في المائة من المرضى أنفقوا من أموالهم الخاصة للحصول على الرعاية الصحية، لكن نسبة كبيرة من المرضى لم يتمكنوا من تسديد التكاليف المرتفعة، فاضطروا إلى السفر للخارج.
على سبيل المثال، تصل تكلفة جراحة استبدال مفصل الورك إلى 14800 دولار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جراحة استبدال الركبة، أما الجراحات البسيطة، فتصل تكلفتها إلى ما يقارب 4000 دولار أميركي. هذه التكاليف لا يمكن لكثير من البريطانيين توفيرها، ما يدفعهم للسفر إلى وجهات أرخص، وتعد ليتوانيا الوجهة الأرخص حالياً.
وكشفت صحيفة ذا غارديان البريطانية أنّ إجراء جراحة لاستبدال الركبة في ليتوانيا، شاملة تذاكر السفر، والإقامة في المستشفى، وفحوص ما قبل العملية وما بعدها، تصل إلى 6800 دولار أميركي، أي نحو نصف التكلفة في المملكة المتحدة.
وتزايد خلال الفترة الماضية، الترويج لإجراء العمليات الجراحية خارج المملكة المتحدة، حسب بيانات اتجاهات محرك البحث "غوغل" والذي أظهر زيادة عدد عمليات البحث عن الرعاية الصحية الخاصة في خارج المملكة المتحدة، وتكشف أرقام شبكة معلومات الرعاية الصحية الخاصة أن عدد الذين يدفعون ذاتياً للرعاية المكلفة، زاد بأكثر من الثلث، مقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل جائحة كورونا، مع تسجيل ارتفاع بنحو 193 في المائة في عدد الأشخاص الذين يدفعون مقابل استبدال مفصل الورك، وهي أكثر العمليات شيوعاً في المملكة المتحدة.
وعلى الرغم من غياب الأرقام حول أعداد البريطانيين الذين سافروا إلى الخارج لتلقي العلاج خلال العامين الماضيين، فإن البيانات الصادرة عن هيئة الإحصاءات الوطنية، قدرت أن نحو 248 ألف شخص مقيم في المملكة المتحدة، تلقوا العلاج الطبي في الخارج خلال العام 2019، قبل الجائحة الصحية، مقارنة مع 120 ألفاً في عام 2015، ومن المرجح أن يكون الرقم قد ارتفع بعد عام 2019.
وتقدر "ذا غارديان" أن يرتفع عدد البريطانيين المسافرين إلى مدينة كاوناس في ليتوانيا لإجراء عمليات جراحية تخص العظام، إلى أكثر من 500 مريض خلال هذا العام، بما في ذلك، استبدال مفصل الورك، أو الركبة، وغيرهما، وذلك ارتفاعاً عن أرقام عام 2022، الذي سجل ما يقارب 392 مريضاً، ومقارنة مع 150 مريضاً قبل الجائحة.
في السابق، كان العديد من البريطانيين يسافرون إلى الخارج لإجراء عمليات تخص جراحات التجميل، من بينها شد البطن، أو تجميل الأسنان، لكنّ هذه التوجهات بدأت تشهد تغييراً واضحاً، ويوضح رئيس تحرير مجلة السياحة الطبية الدولية، كيث بولارد، أن هناك زيادة في الطلب على خدمات الرعاية الطبية الأساسية.
عادة، يخضع المرضى لاستشارة عن بُعد قبل السفر، يجري خلالها ملء استبيان صحي، وتقديم الفحوص ذات الصلة، ونتائج اختبارات الدم، وعند عودتهم، من المتوقع أن يخضعوا للتصوير بالأشعة بعد ثلاثة أشهر، ليعادوا مجدداً إلى العيادة إذا ما حدث أي خطأ، ويحق للمرضى الحصول على مزيد من العلاج المجاني حينها.