الزلزال يضاعف مأزق التعليم في "العمق المغربي"

15 سبتمبر 2023
يعلم مغاربة أن أوضاع أبنائهم التعليمية بالمناطق البعيدة كارثية (بولنت كيليتش/ فرانس برس)
+ الخط -

يلملم المغرب أشلاء ضحايا الزلزال الذي ضربه وأودى بحياة الآلاف، ومثلهم من المصابين. فضلاً عن الدمار الذي أصاب عشرات القرى والبلدات والمدن، بما فيها تلك المصنفة على لائحة التراث العالمي، باعتبارها بمثابة كنز للبشرية جمعاء، وليس للمغرب وحده. أبرز تلك المناطق مدينة مراكش الحمراء، التي تجمع في ساحاتها وأسواقها وبين رحابها ثقافة وحضارة أفريقيا الداخلية والساحلية، بما حملته من تراث أفريقي وعربي وأمازيغي وإسباني وفرنسي وغيرها. 
إذاً، الكارثة التي أصابت المغرب وأهله فادحة وتحتاج إلى جهود كبرى وكثيفة لتجاوز آثارها، وهي آثار قد تحتاج إلى عقود طويلة، وهنا نتحدث عن قرى مُحيت عن خريطة العمران البشري بمن فيها وما عليها من أساليب عيش ومقومات. وهنا يطرح السؤال نفسه: من سيعيد إعمار مثل هذه القرى التي لم يعد من أهلها "مخبِّر" يعيد إحياء ذاكرتها وذاكرة الناس الذين عجنتهم الحجارة ومواد البناء القديمة التي توارثوها جيلاً عن جيل. المقصود هنا أن الموضوع أهم من مجرد إعادة بناء قرية أو بلدة أو أحياء في مدينة تهدمت بالزلزال وما تلاه من هزات ارتدادية. 
والمؤكد أن الدول والشعوب والمنظمات التي هبّت تمدّ يد العون وترسل المساعدات والفرق المدربة على أعمال الإنقاذ والإسعاف تساهم في التخفيف من نتائج الكارثة، لكنها بالتأكيد غير كافية لتجاوز المحنة التي أصابت أجيالاً متعددة، ولا سيما أولئك الأطفال الذين كانوا في عشية المصيبة قد أعدوا حقائبهم وثيابهم وكتبهم للتوجه صباحاً إلى المدرسة بعد العطلة الصيفية، فإذا بالركام يصرعهم، فيصبحون جثثاً معجونة بالحجارة والخشب. 
إذاً، هناك أطفال خسروا حياتهم، لكن الناجين أيضاً خسروا الكثير. لا نتحدث هنا عن أيام الدراسة التي عطلتها وزارة التربية بما أن الهزات الارتدادية قد تتلاحق وتطول إلى أكثر من أربعين يوماً. ثم ماذا عن أولئك الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم ومنازلهم وحاجاتهم، وباتوا الآن يعانون العراء في الشوارع والساحات العامة، أو وجدوا ملاذات مؤقتة لهم في الخيام التي قامت بتوزيعها جهات داخلية أو خارجية؟ ليس أمراً تفصيلياً على طفل في عمر المدرسة أن يفقد أحد أفراد أسرته، أو حتى أن يخسر أشياءه البسيطة التي جهزها ليوم الدراسة الموعود من نوع المبراة والممحاة والقلم والدفتر وزجاجة الماء، وقس على ذلك من أشيائه الجميلة...
لكن المشكلة تبدو أبعد من نتائج الزلزال وما ترك خلفه من بصمات تدميرية. فمنذ سنوات وعقود يشهد المغرب نقاشاً محتدماً حول أزمة التعليم وأسباب النتائج الكارثية للنظام التعليمي المغربي، ما جعله بمثابة علامة فشل مسجلة تتحمل مسؤولياتها الحكومات المتعاقبة. وهو ما دفع العديد من الخبراء التربويين المغاربة إلى الدعوة لإحداث تغيير جذري يقلب النظام التعليمي الموروث رأساً على عقب، ويطلق حركة تجديد ونهوض تنقله مما تركه للبلاد الاستعمار الفرنسي إلى القرن الواحد والعشرين. 
يمكن الاستخلاص من كل ذلك الجدل أن الجهود المبذولة في دوائر وزارة التربية والتعليم ومؤسسات المجتمع أيضاً لم تكن كافية لإحداث النقلة المطلوبة. وحتى لا نضع كل المناطق والمراحل والمدارس في سلة واحدة، يجب أن نشير إلى أن مشكلة المدرسة في بلد مترامي الأطراف كالمغرب تختلف بين المدن والأرياف، وكذلك بين طبقات المجتمع وشرائحه. ففي المدن يلاحظ ارتفاع المستوى التعليمي، ولا سيما في المواد الأساسية، كالرياضيات والعلوم واللغات، بينما يعاني أبناء الأرياف من ضعف في مستواهم، ما يقود إلى تسربهم، وترك الدراسة مباشرة أو بعد سنوات من الرسوب المتكرر دون النجاح في اجتياز العقبات التعلّمية، التي تفتح الطريق أمامهم نحو متابعة تحصيلهم الثانوي والعالي. 

وورد في تقرير أصدره البنك الدولي حول التعليم في المغرب أن معدل فقر التعلّم يناهز نسبة 66 في المائة، وأن 67 في المائة من الأطفال المغاربة يفشلون في الإجابة عن سؤال واحد من أسئلة القراءة المتعلقة بالفهم بشكل صحيح. تقارير محلية وللأونيسكو تحدثت أيضاً عن ضرورة مضاعفة تركيز الاهتمام على المناطق الريفية التي تعاني من تدني مستوى مدارسها وتلامذتها، وتحتاج إلى جهود حثيثة للخروج من المأزق الذي تتخبط به. 
وبصرف النظر عما كشفته التقارير، يعلم المغاربة أن أوضاع أبنائهم التعليمية، لا سيما في المناطق البعيدة عن العاصمة هي كارثية وتنسحب على جملة المراحل التعليمية دون استثناء، وصولاً إلى مراحل التعليم العالي في الجامعات. الأونيسكو في تقرير لها مثلاً عزت سبب تدهور قطاع التعليم في المغرب إلى ندرة الموارد المالية المخصصة للتعليم، وقالت إن ذلك ينعكس على أوضاع المعلمين وفقدان التجهيزات وملاءمة الأبنية المدرسية والوضع المعيشي للمعلمين والتلامذة والطلاب وما شابه، وهو أكثر وضوحاً في "المغرب العميق"، أي خارج إطار المدن الرئيسية حيث الحياة التعليمية والثقافية والاجتماعية أكثر حيوية. وخطورة ذلك أنها سرعان ما تتحول إلى فوارق وظيفية واقتصادية واجتماعية تكرس التخلف في مجال جغرافي والتقدم في آخر. انطلاقاً من ذلك، هناك من يتهم الحكومة بالمسؤولية عن الكارثة، لأنها لا تملك خطة فعلية تسد الثغرات في المنظومة التعليمية، وتعمد دوماً إلى رفض مطالب المعلمين والأساتذة والطلاب، ما يقود إلى نشوب إضرابات تؤدي إلى تضييع الكثير من ساعات التدريس.
دون مزيد من الشرح، يمكن القول إن ما ورد في التقارير عن تراجع المستوى التعليمي في "المغرب العميق" من الممكن، إن لم نقل من المؤكد، سيزداد حدة في ضوء ما كابده سكان الإقليم الأطلسي الذين أصابهم الزلزال وأدى إلى ما أدى إليه من خسائر بشرية ودمار لم تسلم منه المدارس والمرافق العامة التي نالت نصيبها منه، وهي بحاجة ملحة إلى إعادة بناء لمنشآت مقاومة للزلازل كي لا تتكرر الكارثة ويدفع التلامذة والطلاب والمعلمون والبلاد والعباد حياتهم ثمناً لذلك.
(باحث وأكاديمي)

المساهمون