الدراسة في الخارج مشروع أسر تونسية

11 اغسطس 2021
اهتمام بوصول الأبناء إلى المهجر (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -

قبل سنوات من حصول فرح على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) بدأت عائلة سليم في تونس بتخطيط مشروع التحاقها بكلية للهندسة في ألمانيا، من خلال جمع نحو 40 ألف دينار (14.250 دولاراً) لتأمين تكاليف رسوم الدراسة والسفر والضمان المالي الذي تطلبه غالبية الجامعات الأجنبية من الطلاب القادمين من الخارج.
واحتاج توفير هذا المبلغ إلى تخطيط مالي واعتماد استراتيجية تقشف في الإنفاق، وصولاً إلى تأمينه في يوليو/ تموز الماضي عبر مدخرات أسرية وقرض مصرفي ستسدده الأسرة على امتداد 7 سنوات، علماً أن سفر الطلاب للدراسة في الخارج بات مشروعاً تعمل عائلات تونسية لتنفيذه على امتداد سنوات، بعدما باتت الهجرة حلماً جماعياً لفئة مهمة من المواطنين تعتبر مغادرة البلد وسيلة نجاة من أجل تأمين مستقبل أفضل.
وشهدت تونس خلال العقد الماضي زيادة كبيرة في هجرة الطلاب الراغبين في الدراسة بجامعات أجنبية، رغم التكاليف المالية المرتفعة التي تدفعها الأسر من أجل إعداد أبنائها للسفر. من هنا تعتبر أسرة سليم أنها مطالبة بالتضحية من أجل ضمان مستقبل ابنتها فرح التي حصلت هذا العام على شهادة البكالوريا في اختصاص الرياضيات بتقدير جيد جداً.

طلاب وشباب
التحديثات الحية

تقول ريم سليم (47 عاماً) لـ"العربي الجديد": "سأناضل كي تحقق ابنتي حلم الالتحاق بجامعة ألمانية للتخصص في هندسة الميكانيك. الدخل الشهري لأسرتنا لا يتجاوز 3500 دينار (1250 دولاراً)، في حين احتجنا إلى توفير 10 آلاف دينار (3560 دولاراً) على الأقل خلال سنتين، قبل أن نقترض باقي المبلغ من مصرف". تضيف: "ننظر إلى تضحياتنا على أنها وسيلة لكسب جائزة، فالاستثمار في تدريس ابنتنا هو مشروع أسري نعمل عليه منذ سنوات".
ولا تقلّل ريم من قيمة الجامعات في تونس التي تؤكد تمتعها بمكانة جيدة على صعيد جودة التعليم، لكنها تستدرك أن "أفق العمل والتميّز يظل أكبر للشبان الذين يدرسون في الخارج"، مشيرة إلى أن "تونس تعيش ظروفاً اقتصادية واجتماعية صعبة تجعل المشهد ضبابياً فيها". وتشدّد ريم على أنها تريد حياة جيدة لابنتها، وضمان مستقبل دراسي ومهني مميز لها، علماً أن آلاف الأسر من ذوي الدخل المتوسط وطبقة الموظفين تعيش تجارب مماثلة لتحقيق أحلام أبنائها في الهجرة للدراسة، أو ربما الاستقرار نهائياً في الدول المستضيفة.
وتشير بيانات البنك المركزي التونسي إلى أن الأسر ترسل نحو 250 مليون دولار سنوياً من الحوالات المالية إلى مراكز دراسة في الخارج، بمعدل 900 دولار للطالب الواحد. وتكشف أن عدد الطلاب التونسيين في الخارج يناهز 20 ألفاً، بينهم 13 ألفاً في فرنسا ودول أوروبية أخرى، في حين يتوزّع الباقون على جامعات في أميركا الشمالية، وبدرجة أقل على جامعات في روسيا وبلدان أوروبا الشرقية.
تقول الأستاذة الباحثة في علم الاجتماع، صابرين الجلاصي، لـ"العربي الجديد"، إن "هجرة الطلاب تحوّلت إلى مشروع أسري متكامل يخطط له مسبقاً من أجل تأمين حلم الهجرة، علماً أن هذا الأمر ظل حتى سنوات ما قبل الثورة عام 2011 نوعاً من ترف اجتماعي ينحصر في فئة معيّنة من الأسر ذات الدخل المرتفع، أو تلك التي يعتبر أبناؤها من المتفوقين الذين يحصلون على منح جامعية تقدمها الحكومة. لكن انسداد الأفق في الداخل حوّل هذه الهجرة إلى مشروع عائلي يشمل كل الطبقات رغم كلفته العالية على صعيد رسوم التسجيل والسكن والمعيشة في الخارج".

الالتحاق بجامعات في تونس خيار "ثانوي" (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
الالتحاق بجامعات في تونس خيار "ثانوي" (فتحي بلعيد/ فرانس برس)

وتعتبر الجلاصي أن "حال الارتباك السياسي وصعوبة الوضع الاقتصادي والاجتماعي تحوّل تونس إلى بلد طارد لشبابه، وفي مقدمهم المتفوقون الذين يملكون حظاً أكبر في الحصول على تحصيل علمي أعلى مستوى"، رغم أن الحكومة التونسية تقدم عشرات المنح سنوياً لناجحين في شهادة البكالوريا يفضلون غالباً السفر للدراسة في الخارج على الالتحاق بجامعات مهمة في الداخل. 
من جهته، يتحدّث المحلل الاقتصادي أيمن الوسلاتي لـ"العربي الجديد"، وهو أحد المتفوقين الذين درسوا واستقروا في المهجر، عن أن "الكفاءة العلمية تختصر الفترة التي يحتاجه إليها المهاجر للاستقرار في بلد إقامته الجديدة، وقد نجح جيل التونسيين الجديد الذي خاض تجربة الهجرة في الاندماج سريعاً في الدول المستضيفة". ويشدد على "ضرورة إفادة تونس من التحولات المجتمعية، عبر جذب الجيل الجديد إلى استثمارات والإفادة من تأثيراتهم الإيجابية على الاقتصاد، وعدم الاكتفاء بكونهم مصادر لتحويل العملات الصعبة الموجهة فقط نحو الاستهلاك".
وتضم الجالية التونسية في الخارج نخباً وكفاءات عالية. ويُظهر إحصاء أجراه ديوان التونسيين بالخارج (هيئة حكومية تشرف على الجاليات التونسية المغتربة) أن عدد التونسيين ذوي الكفاءات العالية والمراكز المهمة في أوروبا يتجاوز 90 ألفاً.

ويتركز وجود المهاجرين التونسيين الذين غادروا البلاد بعد الثورة في أوروبا، وتحديداً فرنسا وإيطاليا وألمانيا، إلى جانب كندا وبلدان الخليج العربي التي يزداد فيها الحضور المؤثر لذوي الشهادات العالية في شركات النفط، ودوائر القضاء وقطاعي الطب والتعليم العالي. 
وخلال السنوات العشر الأخيرة، مثلت تحويلات التونسيين في الخارج نسبة 20 في المائة من الادخار الوطني، و5 في المائة من الناتج المحلي، بحسب بيانات وزارة المال والبنك المركزي، ما يعكس حجم التزام المغتربين تجاه أسرهم التي زاد وضعها سوءاً بعد ظهور جائحة كورونا، وخسارة أكثر من 270 ألف تونسي مصادر دخلهم.

المساهمون