ناشد الخياط السوري جهاد شهاب الدين زبائنه الذين حالت ظروف العيش الصعبة خلال السنوات القليلة الماضية دون تسديد أجور تفصيل أو إصلاح ملابسهم المودعة لديه، بمراجعة محلّه لاسترداد الألبسة دون أي مقابل، معتذراً منهم لعدم معرفته بالعناوين أو أرقام الهواتف وإلا لكان أرسلها دون أن يُحرج أحداً.
شهاب الدين الذي يعمل في حرفة الخياطة منذ أكثر من أربعين عاماً، خيط وفصل وأصلح آلاف الملابس الرجالية والنسائية وتوالى على محله الكائن وسط السوق المركزي في السويداء جنوبي سورية، أعداد لا تُحصى من الزبائن الكبار في السن والشباب نساءً ورجالا، وعايش صور وأشكال تطور الموديلات وثورة الموديرن التي رافقت أجهزة الخليوي وبرامج الأزياء عبر منصات التواصل الاجتماعي.
الخياط شهاب الدين: شرائح المجتمع تغيرت
يرى في حديثه لـ"العربي الجديد"؛ أن "هذه السنوات الأخيرة قهرت وأذلت الكثير من النفوس العزيزة، وفرزت الناس في المجتمع السوري إلى أكثر من شريحة، غالبية ساحقة تعيش دون خط الفقر وتعتمد في حياتها على عائدات الوظيفة ومساعدات المغتربين والزراعة والتجارة البسيطة"، مضيفاً أنّ "هذه الشريحة هي التي تُصلح قطع الألبسة أكثر من مرة وترتي وترقع بعضها. وشريحة أخرى لم نعد نراها نحن الخياطين الشعبيين وهذه تهتم بالماركات الأجنبية ومصممي الأزياء ومحلات الألبسة الشهيرة".
تمسك حرفيو سورية وأصحاب الأعمال الخاصة بأعمالهم خلال سنوات الأزمة السورية في مناطق سيطرة النظام، وحاولوا مجاراة التغيرات الطارئة على أسعار المواد الأولية الخاصة بحرفهم والاختلاف في معايير الجودة وبالتالي الإنتاج، تماشياً مع تردي الوضع الاقتصادي للمستهلك والمعيشي عموماً.
وتميز الحرفيون ضمن المجتمع السوري كشريحة هي الأكثر توازناً واستقراراً والأقل تنقلاً وسفراً وهجرة، رغم التحديات والعوائق التي ساهمت بشكل أو بآخر في تدني مستوى دخل الحرفي ولكنها لم تثنِ عامة هذه الشريحة عن الحفاظ على الحد الأدنى من الدخل المقبول للعيش.
يقول شهاب الدين: "غالباً ما أحب الحرفي عمله واختاره دون همّ الحصول على شهادات علمية أو المثول للاختبارات، وبقي خلافاً لكل الوظائف والمهن الأخرى متحرراً من قيود انتظار الراتب نهاية كل شهر، والإدارة والمعاشات والتأمين أو الالتزام بمكان وساعات الدوام، وجعل من اجتهاده الشخصي وخبرته وطبيعة علاقته مع الآخر هي مقياس لنجاحه واستمراره، وبالتالي تجد الحرفيين عموماً أكثر شرائح المجتمع السوري ثباتاً وانسياباً مع المتغيرات، وأقلهم تفاعلاً مع الحدث السياسي السوري، انطلاقاً من المثل الشعبي "بدنا سلتنا بلا تين"".
الحرفيون عموماً أكثر شرائح المجتمع السوري ثباتاً وانسياباً مع المتغيرات، وأقلهم تفاعلاً مع الحدث السياسي السوري
ومن هذه الخاصية يرصد شهاب الدين تطور عمل الخياطة وازدهارها في سورية عموماً، قائلاً: "صدّرت البلد العديد من مصممي الأزياء رجالاً ونساء، كما كانت معامل الألبسة في حلب ودمشق تصدر أهم الألبسة الحديثة وبجودة عالمية إلى العديد من دول العالم قبل الحرب، في نفس الوقت الذي لم تستطع الآلة والمصنع الاستغناء عن دور الخياط أو المصمم بل بقي لهذا الدور مكانته رغم تردي الظروف الاقتصادية".
أما عن التطور والتغيّر في المجتمع فيضيف شهاب الدين: "منذ بدأت تعلم الخياطة أثناء دراستي الجامعية في دمشق عام 1980 كانت لهذه المهنة قيمة إنسانية وتقدير كبير، ونظرة للخياط على أنه مبدع وفنان ومتميز حتى بين الأصدقاء والزملاء، يستشيره الزبائن في أنواع الأقمشة وتناسب الألوان والخيط والدرزة والموديل، أما اليوم ومع تطور الصورة وسهولة الوصول إلى معارض الأزياء والحداثة عموماً، أصبح الزبون هو من يقرر ويملي على الخياط وما على الأخير سوى التنفيذ تماماً كالآلة أو الماكينة دون مشاعر".
ويضيف قائلاً: "غالباً ما نقرأ التغييرات الطارئة على آلية تفكير الناس وسبل عيشها من خلال التعامل اليومي مع كافة الفئات العمرية من الجنسين، ومن خلال أشكال وموديلات الألبسة المطلوبة، ونكتشف يوماً بعد يوم خط الانحدار الفكري والاجتماعي وحتى الإنساني نحو الهاوية، فنحن ننتقل خلال سنوات قليلة من مجتمع عامل ومسؤول ذي قيم إنسانية رغم الظلم والاضطهاد السائد، إلى مجتمع استهلاكي مبتذل وخالٍ من الحلم والطموح والأمل يعيش يومه دون الغد".