كنا لا نفوّت في طفولتنا الباكرة فرصة رفع الأوراق المالية إلى مصادر الضوء لمعاينة الخرتيت (وحيد القرن). تلك العلامة المائية في عُملة ما بعد الاستقلال والحكومات الوطنية حتى سبعينيات القرن الماضي حين استبدلت بصقر الجديان شعاراً للسودان. ومن المعلوم أنه عند إنشاء أي دولة حديثة، أو حصول دولة على استقلالها، تتمثل أولى المهمات الوطنية بإبراز هويتها في ألوان علمها، ونشيدها الوطني، والشكل الرسمي لخريطة الدولة السياسية وشعارها.
لدى إعلان الاستقلال عام 1956، امتلك السودان ضمن ثروته الحيوانية الهائلة 200 حيوان من فصيلة وحيد القرن النادرة، لذا اختير "الخرتيت" شعاراً للدولة. ويعود اسم "خرتيت" إلى اللغة المحلية لقبائل الدينكا جنوبيّ السودان. حينها كان المستعمر الإنكليزي قد فرض حماية مشددة وفرها 400 جندي (ضعف عدد الحيوانات نفسها) أقاموا في شكل دائم في معسكر خاص قرب موئل هذه الحيوانات، واستعدوا بالكامل لدرء أي مخـاطر أو اعتداءات عليها، فتولد من هذه الحال تآلف وثقة بين الحيوانات والجنود، قبل أن يخرج المستعمر وسياساته الرامية إلى حماية التنوع البيولوجي في كل مكان، وحل حكم الوطنيين، ما جعل الأنواع النادرة تختفي من مواطنها الأصلية.
ولوحيد القرن اسم آخر هو "الكركدن" الذي يستخدم في مواقع أخرى، وأنواعه خمسة، هي الأبيض والأسود والهندي ووحيد قرن سومطرة، ووحيد قرن جاوة، وتنتشر في آسيا وأفريقيا. إلا أن هذه الأنواع الضخمة سميكة الجلد باتت مُهدّدة بالانقراض، وفقاً لتصنيف الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة والموارد الطبيعية الذي وضع في قائمته وحيد القرن الأبيض ضمن الأنواع القريبة من خطر الانقراض، فيما يأتي وحيد القرن الأسود الأفريقي ضمن فئة الحيوانات المهددة بشكل حرج بالانقراض.
وبالفعل، بدأ انقراض هذه الحيوانات في السودان تدريجاً، حيث لقي أولها مصرعه في حديقة الحيوانات العامة نتيجـة الظروف السيئة والمساحة الصغيرة التي خُصصت له. وبعد اندلاع حرب الجنـوب واشتداد وزرها عـام 1983، انقـرضـت بقيـة هذا الحيوان، باستثناء أربعـة توجد في الـولايات المتحـدة سبق أن قدمها السـودان هـدية إلى الإدارة الأميركية بعـد قبول معونتها أواخر الخمسينيات.
وفي سبتمبر/ أيلول 2004، عاد وحيد القرن إلى أحد متنزهات موزمبيق بعد 40 عاماً من اختفائه إثر اندلاع الحرب وتدهور بيئة متنزه زيناف الوطني.
وفي إطار مبادرة لاستعادة الحيوانات البرية وتعزيز الاقتصاد المحلي، وصل 19 حيواناً على متن شاحنة قادمة من جنوب أفريقيا في رحلة اجتازت مسافة 1600 كيلومتر. ومنذ ذلك التاريخ، أُدخل 2400 حيوان من 14 نوعاً إلى المتنزه الوحيد الذي يضم الحيوانات الأفريقية الخمسة المُستهدفة بالصيد الجائر، وهي الفيل ووحيد القرن والأسد والفهد والجاموس، ما يعني أن استعادة هذا الوجود ممكن في ظل وجود حكومات مهتمة، وسياسات وقوانين حامية.
(متخصص في شؤون البيئة)