غسلت حبات المطر دموع كلثوم، لكن كلماتها عبرت عن انكسارة خاطر لا يد لها فيها. "حظنا والمكتوب لا بد تراه العين". تبدل حالها منذ بارحت بيتها هناك، وجاءت إلى هنا حيث تشعر بالخوف مع سقوط كل نقطة مطر على سقف البيت المتهالك في طرف المدينة الكبيرة، بينما يتم هناك الاحتفاء بالمطر، حين تهتز الأرض وتنبت من الخيرات الكثير حول المساكن. كان لكلثوم مثل رفيقاتها هناك "جُبْراكة"، وهي مزرعة صغيرة بمثابة حديقة خلفية في الثقافة الغربية، تساهم في تأمين الغذاء الطازج والآمن للأسر في المناطق الريفية.
وتؤكد سلمى راشد، وهي خبيرة الأمن الغذائي في إحدى المنظمات العالمية العاملة في السودان، أنه "مع بدايات الخريف في أرياف كردفان ودارفور، تبدأ النساء في فلاحة الجباريك (جمع جُبْراكَة)، لتوفير الذرة والخضار مثل البامية والجرجير والملوخية، وأنواع من القرعيات، وعلى رأسها التِّبّش أو الفَقُّوس الذي يمكن تخزينه في مطامير أرضية ريثما يتم حصاد منتجات البِلْدَات، ومفردها بلاد، وهي تلك المساحات الزراعية الكبيرة خارج النطاق السكني حيث تزرع المحاصيل الغذائية والنقدية (التي تزرع لبيعها في أسواق المدن أو للتصدير) كالذرة بأنواعها، والدخن، والسمسم والفول السوداني والكركدي، وحب البطيخ، ويتولى زراعتها الرجال بمساعدة النساء، اللواتي يكن قد فرغن من زراعة جباريكهن".
إلى جانب الغذاء، توفر الجُبْراكَة القليل من النقود لتغطية مستلزمات الأسرة، وما تتقاصر عنه عائدات الزراعة من النقود يغطيه بيع الحيوانات التي تشارك المزارعين سُكناهم. درج الريفيون هناك على تربية الأغنام والقليل من المواشي والدواجن لأغراض تنويع الغذاء والبيع، بالإضافة إلى الحمير التي يستفاد منها في النقل والتنقل والبيع عند الحاجة، علاوة على استخدامها في بعض العمليات الزراعية كحراثة الأرض وتسويتها.
تيسّر المساحات الكبيرة بين المساكن عمليات تربية الحيوانات التي تقوم بأدوارها البيئية من قبيل تخصيب الأرض بالمخلفات، وإعادة استخدام مخلفات الغذاء، وتمتين علاقات المزارعين والرعاة في المشاريع الزراعية الكبيرة في ما يسمى بتبادل المنافع، ذلك حين يتم إدخال الحيوانات للمساعدة في تنظيف الأرض من مخلفات الحصاد. إلا أن هذا الأمر اختلف حين أصبحت هذه الحيوانات تقوم بنشر بذور شجرة المسكيت الضارة بالمزارع. وأصبح المزارعون يفضلون بيع مخلفات الحصاد على السماح بالرعي في المزارع.
تذكر كلثوم أنهم هناك لا يحتاجون لشراء الزيت، فقد كنّ يذهبن بالفول أو السمسم إلى العصّارات المحلية لاستخراج الزيت في مقابل بعض النقود، أو في مقابل التنازل عن مخلفات العميلة، أي الأمباز، الذي يعد غذاء عالي القيمة للمواشي. كما أنهم يستخدمون السمن الحيواني المصنّع في المنازل.
تعود راشد لتؤكد أن "الدعوات الحالية لممارسة الزراعة المنزلية، حتى في بيوت المدن، من شأنها توفير الغذاء العضوي الآمن للأسر الفقيرة، خاصة في ظل انتشار المنتجات الزراعية الملوّثة بآثار التسميد الصناعي، مع إمكانية توظيف المخلفات العضوية في التسميد".
(متخصص في شؤون البيئة)