يتحوّل نجاح كبار السن في الانتقال من مرحلة الأمية إلى درجات جيدة من العلم، إلى ظاهرة ملهمة في الجزائر التي اتخذت منذ نحو عقدين تدابير حاسمة في هذا المجال. وبلغ هذا النجاح حدّ تجاوز بعض كبار السن مرحلة شهادة البكالوريا، في وقت تختلف دوافع وأسباب كل منهم لاختيار السير على درب الدراسة بعد انتظار طويل. وتشير التجارب إلى أن الأبناء وأفراد الأسرة عموماً يلعبون دورا مهما في تشجيع كبار السن على التعلم، وتحقيق نجاحات شخصية تجلب سعادة عامرة لهم.
أخيراً، ناقش عمار سيغة أطروحة دكتوراه في جامعة منوبة بتونس، وارتدى لباس التخرج، وهو ما فعلته أيضاً والدته حورية ڨرارة في الحفل الذي نظمته مدرسة لحصولها على شهادة التعليم الابتدائي في سن الـ 67، ما عكس إرادتها الكبيرة في تغيير مسار حياتها، وتجاوز حاجز الأمية الذي فرضته عليها ظروف الاستعمار، والصعوبات التي واجهتها عائلتها في السنوات الأولى لاستقلال البلاد عام 1962. كانت حورية في السادسة من العمر عام 1962، أي في سن الدراسة، ولم تتوفر لها فرصة دخول مدرسة تقع على مسافة بعيدة من منزلها، ثم فقدت والدها بعد عام بتأثير التعذيب الذي تعرّض له خلال ثورة التحرير. واستطاعت فقط اللحاق بحصص لتعليم القرآن في قريتها.
وأنجبت حورية بعد زواجها ستة أطفال، توفي اثنان منهم وبقي أربعة أحياء، وبينهم عمار ونجوى اللذان سعيا إلى رد الجميل لها، عبر مساعدتها وتشجيعها على التسجيل في قسم لمحو الأمية بمدرسة، والذي كان افتتح إثر تنفيذ الجزائر تدابير لمحاربة الأمية في مناطق عدة. يقول عمار لـ"العربي الجديد": "كان الفضاء ملائما لأمي من أجل الالتحاق بمقاعد الدراسة مجددا، ورفعت التحدي ودرست أربع سنوات في مدرسة، ثم أكملت عامين في أخرى، وهي تواصل مسارها التعليمي، وما زالت تصرّ على أن مشوارها لن يتوقف، ولديها طموح كبير في الحصول على البكالوريا والالتحاق بالجامعة". عام 2003، أطلقت الجزائر برنامجاً واسعاً لفتح أقسام لمحو الأمية في كل المناطق، واستغلال المدارس خلال فترات محددة لتعليم كبار السن. ونجح البرنامج في استقطاب عدد كبير من كبار السن لتعلم القراءة والكتابة، وتعويض ما فاتهم بسبب ظروفهم الخاصة.
وشملت المناهج الفتيات وسكان المناطق الريفية، في حين طرحت أسئلة كثيرة حول الدوافع التي تحفز هؤلاء الكبار في السن، وبينهم شيوخ وعجائز، على التعلم والاستمرار في التدرج، رغم عقبات السن نفسها، والظروف الحياتية التي قد تكون صعبة بالنسبة إلى بعضهم، وانشغالاتهم الاجتماعية.
وبالتأكيد لم يكن الدافع نيل شهادات أو البحث عن وظيفة. وحضر في بعض الحالات الدافع الديني الذي يطالب بضرورة التعلم من "المهد إلى اللحد"، وكذلك الرغبة في تقديم نموذج لتحدي الحياة.
وفيما اعتاد الجزائريون في السنوات الأخيرة على مشاهدة اجتياز كبار السن امتحانات شهادة البكالوريا، اكتشفوا للمرة الأولى هذا العام تفاصيل تجربة تقدم الشيخ الكفيف أحمد دباب البالغ 78 من العمر، والمتحدر من منطقة حاسي بحبح بولاية الجلفة جنوبي العاصمة الجزائرية، للامتحانات. وأثبت دباب أن تقدمه في السن ومعاناته من عاهة جسدية بسبب تعرّضه لحادث في العمل قبل 28 سنة، لم يمنعاه من مواصلة الدراسة والتسجيل في نظام المرشحين الأحرار، تمهيداً لاجتياز الامتحانات المؤهلة إلى التعليم الجامعي في تخصص العلوم التجريبية. وقد راوده حلم خوض امتحانات البكالوريا والنجاح فيها العام الماضي، لكن ظروفه لم تسمح له بإكمال كل الامتحانات، ثم كرر الأمر هذا العام.
ووجد الشيخ دباب تشجيعاً كبيراً من محيطه القريب، خاصة أولاده الذين دعموا سلوكه طريق العلم، فالتحق بمدرسة للمكفوفين لمواصلة تعليمه، ثم سجل في نظام للدراسة عن بعد من أجل تحسين مستواه، وضمان انخراطه في البرنامج الذي يوصله إلى المرحلة الأخيرة من المرحلة الثانوية. وبعدها سجل في نظام المرشحين الأحرار لاجتياز البكالوريا، مؤكدا رغبته في مواصلة الدراسات العليا.
وخلال أيام امتحانات البكالوريا التي أجريت بين 11 و15 يونيو/حزيران الماضي، تكبّد دباب كلفة ومشقة الانتقال مسافة 50 كيلومترا من مسكنه ببلدة حاسي بحبح إلى مركز الامتحانات في ثانوية المجاهد حاجي عيسى بمدينة عين وسارة.
إلى ذلك، تخبر حليمة البالغة 69 من العمر "العربي الجديد" أنها زارت البقاع المقدسة قبل 23 عاماً حين لم تكن تجيد القراءة والكتابة، فظلت طوال الرحلة متعلقة بزوجها الراحل وأختها من أجل معرفة الأماكن والأسماء، ثم قررت أن تتعلم بعد عودتها إلى الجزائر، وقادها ذلك إلى مركز محو الأمية في منطقة الزبوجة بولاية الشلف التي تبعد 280 كيلومترا من غربي العاصمة الجزائرية. وتقول حليمة: "كنت أذهب يومين في الأسبوع إلى مركز محو الأمية حتى حصلت على شهادة الكفاءة لتجاوز المستوى الأول من الصفوف الابتدائية. وبعدها واصلت التعلّم والتدرج حتى الصف المتوسط ثم الثانوي، وزاد تعلّقي بالتعلم بعدما تفرغت اجتماعيا وكبر أولادي وتزوجوا، وأنا أسعى الآن إلى دخول الجامعة، ودراسة علم النفس، وحفظ القرآن الكريم.
ويرى الباحث في علم النفس والأستاذ في جامعة وهران غربي الجزائر، عبد العزيز منصور، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "عملية التعليم قد تكون عكس ما نتخيله، فالأمر يتعلق بنضج الكبار واعتمادهم على أنفسهم بعدما تعرّضوا لتجارب الحياة. وهم فعلياً يملكون رغبة أكثر من غيرهم في الحصول على نتائج مميزة، لأن وقتهم لا يسمح لهم بالانتظار فترة طويلة. وقد أكدت بعض النماذج تأقلم الكبار مع التعلم ومواصلة الدراسة، وقدرتهم على تحدي كل الصعوبات، رغم البيئات الصعبة التي يعيشون فيها، وذلك بسبب رغبتهم في الخروج عن المألوف. كما أن التغيرات في المهمات الأسرية والعمل والظروف اليومية والحياة الاجتماعية قد تعطي استعداداً كبيراً للتعلم إلى حد لا يمكن تصوره".