رغم أن الكرة الطائرة هي مجاله الأساسي الذي حقق فيه إنجازات في مدينة برج بوعريريج، 200 كيلو متر إلى الشرق من الجزائر العاصمة، إلّا أن العم محمد ترايكية، المعروف بلقب "دا سنيترة"، يُؤرخ لحياته الخاصة عبر كؤوس المونديال، وهو يُمارس الحكاية الشعبية، والأغنية الفكاهية الساخرة، بالإنكليزية واللهجة الجزائرية الدارجة.
ولد ترايكية بعد سنتين من كأس العالم لكرة القدم في سويسرا عام 1954، وقبل سنتين من مونديال السويد 1958، والتحق بالمدرسة في العام الذي احتضنت فيه تشيلي كأس العالم 1962. ما كان ذلك ليحصل لولا استقلال الجزائر في العام ذاتِه، إذ كانت الدراسة بالمدارس النظامية حكراً على أبناء الفرنسيين. ما جعله متمكناً من القراءة بالعربية والفرنسية في عام 1966، حين استضافت إنكلترا كأس العالم، وعمل معلماً للغة الفرنسية، عامين بعد مونديال ألمانيا 1974.
يشرح "دا سنيترة" خلفية هذا التأريخ بكونه وُلد من رحم ثورة التحرير الجزائرية، تماماً مثل فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم في عام 1958، وانسحب لاعبون جزائريون، منهم رشيد مخلوفي، من الفريق الفرنسي قبيل مشاركته في مونديال السويد، ما وضع الفرنسيين في حرج كبير، "وبات للجزائريين فريق يُمثلهم، ويمارسون من خلاله شغف المناصرة الكروية، ولعب خلال السنوات الأربع التّي سبقت الاستقلال 80 مباراة في آسيا وأوروبا الشرقية والدول العربية، بعد أن كانوا ملزمين بمناصرة الفريق الفرنسي الذي يمثل المنظومة الاستعمارية".
بداية من مونديال المكسيك 1970، بات اهتمام "دا سنيترة" بالمونديال له دوافع ذاتية، "حينها كان عمري 14 سنة، وكان مما يُعبر عن نضج الشّابّ الجزائري إلمامه بتفاصيل البطولات العالمية، فقد تسخر منك فتاة في المدرسة إذا سألتك عن فريقك المفضل في كأس العالم ولم تجبها. كان يحدث أن يميل أحدُنا إلى فريق معين فقط لأن فتاة أحلامه تُناصره".
يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "انخراطه وجدانيا في متابعة مونديال المكسيك 1970 كان بسبب مشاركة الفريق المغربي فيه، فقد كانت الرّوح القومية العربيّة في أوجها، ليكون ثاني فريق عربي مونديالي بعد الفريق المصري في عام 1934. بالإضافة إلى أن بيليه كان مرشحاً للقب أفضل لاعب، وهذا ما حدث فعلاً قبل سبع سنوات على اعتزاله. كانت متابعتنا لمبارياته، ولخطب الرئيس هواري بومدين عادةً شبه مقدسة".
ويواصل: "كانت الجزائر تعمل على إثبات جدارتها بالاستقلال عن فرنسا، بعد 132 سنةً من الاحتلال، فنظمت المهرجان الثقافي الأفريقي في عام 1969، والذي افتتحته المغنية الجنوب أفريقية مريم ماكيبا، واحتضنت ألعاب البحر المتوسط في عام 1975، فكان الشباب الجزائري مشحوناً بروح البطولة، ويرى في نجوم كأس العالم نماذج للتّحدّي وإثبات الذات، مثل بيليه البرازيلي، وماريو كيمبس ودييغو مارادونا الأرجنتينيين، وأنتونيو كابريني الإيطالي، ويوهان كرويف الهولندي. فقد جعلنا البولندي فلاديسلاف زمودا الذي نال لقب أفضل لاعب ناشئ في مونديال ألمانيا الغربيّة عام 1974، نؤمن أنّ كلّ الأحلام ممكنة. سواء للأشخاص، أو للشعوب".
وينفي أن تكون كرة القدم مفصولة عن السياسة، فيستحضر مقابلة الفريق البرازيلي مع نظيره السويدي خلال مونديال الأرجنتين عام 1978، حين رفض الحكم كلايف توماس احتساب ركلة حرة نفّذها زيكو، بحجّة انتهاء الوقت الرسمي بينما كانت الكرة في طريقها إلى شباك الحارس السويدي روني هيلستروم. "حينها انتفض كلّ من في المقهى، إذ كان شباب الحومة يُشاهدون المباريات، ويدفعون مشروباتهم مسبقاً حتى لا يتهرب أحدهم في النهاية. خرجت أنا وأخي خالد إلى الشارع للتظاهر ضد تعسف الحَكَم الويلزي. كانت تظاهرة مكونة من شخصين. نددنا فيها أيضاً بمنح رعاية الدورة لشركة كوكاكولا التي كنا نراها شركة إمبريالية بحكم ميولنا اليسارية. وقد كانت المرة الأولى التي يعتمد فيها تنظيم كأس العالم على الرعاية المالية، وتُعتمد فيها ركلات الترجيح".
وفي معرض استحضاره لمونديال إسبانيا 1982، يقول لـ"العربيّ الجديد": "كانت الروح الأسرية في أوجها في المشهد الجزائري في بداية ثمانينيات القرن العشرين، قبل أن يطاولها التفكّك بسبب التحوّلات الثّقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المختلفة، فخفتت مشاهدة المباريات في المقاهي خلال مونديال إسبانيا، لأنّ كثيرين انحازوا إلى مشاهدتها في البيوت حتّى يُشاركوا أسرهم متابعة الفريق الجزائريّ الذّي تأهّل لأوّل مرة إلى المونديال. كنّا أيضاً متحمّسين للفريق الكويتي، قبل إقصاءئه على يد الفريق الفرنسي، ولم تكن المشاهدة في البيت تقتصر على أفراده فقط، بل كان يستقبل الأقارب والأصهار، وكانت الأسر التّي تملك تلفزيوناً ملوّناً نادرةً، وكانت أمّي تُعدّ لنا الفطائر بالعسل. لكن تفوّق عليها في الحلاوة الهدفان اللّذان سجّلهما رابح ماجر والأخضر بلّومي في فريق ألمانيا الغربيّة".
يقول: "في لحظةٍ ما ساورني حلم أنّ يصل فريقنا إلى النّهائيّ، فقد كانت الجزائر محتاجةً إلى ذلك لتتربّع على عرش دول العالم النّامي، وتمنيت أن لا يحصل ذلك خشية أن ألفظ أنفاسي من الفرح. في اللّحظة التّي أقصي فيها الفريق، طرحتُ فطيرة أمّي، ورحت أعزف المرارة التّي شعرت بها على قيثارتي. عندها تأكدّت علاقتي بآلتي لأنّها أثبتت لي قدرتها على تخليصي من المشاعر المتأزّمة، فقرّرت أن أتسمّى بها (دّا سنيترة)، أي صاحب القيثارة".
انحسر الخيار اليساريّ في الفضاء الجزائري بعد رحيل الرئيس هوّاري بومدين، ومجيء الرئيس الليبيرالي الشاذلي بن جديد. "تمكّن معظمنا من مشاهدة مباريات مونديال عام 1986 بالألوان، وبدأت تتكرس ظاهرة وضع شاشات عملاقة في الساحات العامة، كما بدأ يظهر تقليد الشباب لتسريحات اللاعبين، وكانت تسريحة دييغو مارادونا الذّي نال لقب أفضل لاعب في البطولة، هي تسريحة الموسم. لقد أعجبتني، وأعجبني تزامنها مع حفل زواجي".
تعرضت هذه الموضة للعداء خلال مونديال إيطاليا 1990، من طرف أنصار "الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ" التّي كانت مهيمنة على الشارع الجزائري بعد إقرار التعددية الحزبية في عام 1989. "كان الشباب الملتحون يقتحمون قاعات الحلاقة، وينتزعون صور سلفاتوري سكيلاتشي الذي نال الحذاء الذهبي ولقب بأفضل لاعب في الدورة، وكنت أرى في دفاعي عن صوره، وحملي لقيثارتي وطفلي الأول الذي ولد قبل المونديال في الفضاء العام مظهراً من مظاهر الانتصار للحياة".
تقاعد العمّ محمّد ترايكيّة في عام 2017، وصار يجمع بين آلته وعكازه، وينظر بكثير من الحنين إلى ماضيه في مواكبة كؤوس العالم، إذ عاش 17 مونديالاً منذ ولادته. يقول إنّه يجد الكثير من العزاء في أنّ تنظيم كأس العالم آل إلى دولة عربيّة وإسلاميّة. "بعد أن كنّا نعتبر تأهّل فريق عربيّ إلى المونديال مكسباً كبيراً، ها قد صرنا نحن العرب، منظّمين له، ومستقبلين لفرق القارات الخمس ومشجعيها، ليقفوا على حقيقة مغيبة في المنابر العالمية، مفادها أن العرب لم يستقيلوا من ركب الحضارة".