التنوع اللغوي في مصر... جيوب قومية أم عناصر أصيلة؟

10 يونيو 2022
محاولة لإنقاذ اللغة النوبية من الاندثار في صعيد مصر (خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -

لا يدرك المصريون بمعظمهم أنّ ثمّة مواطنين لهم يتحدّثون في ما بينهم بلغات أخرى غير اللغة العربية، وهذه اللغات لها تقاليدها الخاصة وتاريخها العريق وآدابها الغنية، وهي الأمازيغية والبجاوية والنوبية بالإضافة إلى اللغة القبطية التي تمثّل آخر مراحل تطوّر اللغة المصرية القديمة والتي تقلّص دورها في أداء بعض الطقوس الكنسية.

ويشير أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة القاهرة عاطف معتمد إلى أنّ كتب الجغرافيا المنتشرة في الجامعات تصف كلّاً من حلايب وسيوة والنوبة بوصف غير موفّق وهو أنّها "جيوب لغوية"، وهذا الوصف انتشر في نصف القرن الأخير استناداً إلى نظرية "عبقرية المكان" في شخصية مصر التي روّجت أنّ مصر نسيج بشريّ واحد متناغم متجانس في كلّ شيء، وأنّ الوحدة قوامها النيل الواحد المهيمن، وأنّ هذا الشعب المتجانس المتشابه يسكن هنا منذ بدء الخليقة.

ويبرر معتمد هذه الفكرة ذات النزعة العاطفية بظروف بحث مصر عن نفسها في حقبة ما بعد الاستعمار، ثمّ زادت حدّتها بسبب المبالغة في الوطنية والمصرية على يد جيل آخر أراد الدفاع عن مصر بعد الهجوم العربي عليها وتهميش دورها. ويدعو إلى ردّ الاعتبار والتمييز الإيجابي لتلك الخصوصيات الثقافية في المناطق التي تكاد تبتلعها دوائر النسيان وموجات التشابه وصيغ الكلّ في واحد، وهي خصوصيات ينبغي أن تضيف إلى عبقرية النسيج المكوّن للأوطان ولا تنتقص منه.

البداويت لغة بلا رسم

تمتد قومية البجا على ساحل البحر الأحمر من حلايب وشلاتين شمالاً، وجنوباً على امتداد الساحل السوداني، إلى أن تصل إلى إريتريا. قبيلتا العبابدة والبشارية هما أهمّ عناصر هذه القومية الموجودة في حلايب وشلاتين، ويبلغ تعدادها في مصر مليوناً و99 ألف نسمة، وفي السودان مليونين و271 ألف نسمة، وفي إريتريا 127 ألف نسمة.

اللغة البجاوية أو البداويت هي واحدة من مجموعة اللغات الأفريقية الحامية. ويرى بعض المستشرقين أنّ اللغة البجاوية هي لغة مروى القديمة، وهي من اللغات المحكية ولا توجد لها أبجدية متّفق عليها بين الناطقين بها. كانت ثمّة تجارب فردية لكتابة البداويت، منها محاولة بريطاني (يُعرَف بروبير) استخدم الحروف اللاتينية، وثمّة محاولة لكتابتها بالحروف العربية على يد محمد أردور، كذلك ثمّة تجربة ناجحة في إريتريا لتوثيق اللغة وتعليمها في المدارس، ويسعى مركز دراسات ثقافة البجا في جامعة البحر الأحمر إلى توسيع الفكرة وإقامة دورات تدريبية وتعليمية لهذه اللغة.

الصورة
كتاب صلاوات باللغة القبطية في مصر (سيلفان غراندادام/ Getty)
تمثّل اللغة القبطية آخر مراحل تطوّر اللغة المصرية القديمة (سيلفان غراندادام/ Getty)

واحة الغروب أمازيغية

على بعد 560 كيلومتراً من القاهرة تقع واحة سيوة التي ما زال أهلها يحافظون على لغتهم الأصلية، الأمازيغية، التي يتحدث بها 35 ألف مصري، إلى جانب معرفة الأجيال الجديدة باللغة العربية بفضل التعليم الرسمي.

وواحة سيوة هي الأرض التي تدور عليها أحداث رواية "واحة الغروب" للروائي المصري بهاء طاهر. ووصف سيوة بـ"واحة الغروب" يعود إلى أنّها آخر البقاع المصرية التي تغرب فيها الشمس. وعلى الرغم من هذه الإشارة ذات الدلالة الحدودية الصارمة، فإنّ سيوة تشكّل مع واحة جغبوب الليبية الملاصقة لها نظاماً طبيعياً واحداً منذ زمن القوافل القديمة والتكامل التجاري والبيئي قبل الحدود التي وضعها الاستعمار. هذا الامتداد الطبيعي هو الذي يفسّر وجود الأمازيغ بلغتهم وثقافتهم وتقاليدهم في مصر، إذ يمتدّ وجودهم على امتداد الصحراء الغربية في شمال أفريقية عابراً الحدود بين عدد من الدول العربية من المغرب وموريتانيا إلى مصر مروراً بالجزائر وتونس وليبيا. وتتفرّع عن الأمازيغية 11 لهجة بين مختلف القبائل. 

وكانت للأمازيغي أبجدية قديمة خاصة تسمّى "تيفيناغ"، وتعود إلى نحو 1500 سنة قبل الميلاد، وفقاً لبعض الباحثين، وما زالت قبائل الطوارق الأمازيغية تحافظ على هذا النوع من الخط، وإن كانت قبائل أمازيغية أخرى تستخدم حالياً الخطَّين اللاتيني والعربي.

جهود إحياء النوبية

تُستخدم اللغة النوبية في جنوب مصر وشمال السودان، وهي من أسرة اللغات النيلية الصحراوية. ولهذه اللغة لهجات عدّة متقاربة. وفقاً للتقديرات الرسمية، فإنّ عدد النوبيين في نهايات القرن الماضي كان يتجاوز مليون نسمة. وقد استُخدمت اللغة النوبية بشكل استراتيجي في أثناء حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 من أجل تضليل العدو الصهيوني، حين اقترح الصول النوبي أحمد إدريس أن يكون تواصل العناصر في داخل سيناء مع قيادة الجيش باللغة النوبية، وهو الاقتراح الذي أيّده الرئيس المصري الراحل أنور السادات.

وكانت اللغة النوبية تُكتب في عصر الممالك النوبية المسيحية (ما بين عامَي 500 و1500)، وقد استعارت رسم حروفها من الأبجدية الإغريقية. لكنّ هذه الأبجدية هُجرت منذ القرن الثالث عشر ميلادي، وظلت النوبية لغة شفاهية يستخدمها الناس في حياتهم اليومية من دون تعلّم وتدوين. أمّا في العقود الأخيرة، فقد أعاد عشاق الثقافة النوبية ومثقفوها كتابة هذه اللغة لإنقاذ هذا التراث الإنساني من الاندثار.

المساهمون