استمع إلى الملخص
- **رمزية الباص الأحمر في التراث العراقي**: يعتبر الباص الأحمر جزءاً من التراث الحضري لبغداد، ويرمز إلى الزمن الجميل والبساطة. كان جزءاً من الحياة اليومية للعراقيين ويعجب به الزوار والسياح.
- **تجارب وذكريات العراقيين مع الباص الأحمر**: يُعرف بين العراقيين بـ"مصلحة أم الطابقين"، وكان جزءاً من رحلاتهم المدرسية والعائلية. الجلوس في الطابق العلوي كان يمنح رؤية بانورامية للمدينة، مما جعله مفضلاً لدى عموم الشعب.
طوال 40 عاماً متصلة كان "الباص الأحمر" هو وسيلة النقل الأولى داخل بغداد بعد تدشينه في خمسينيات القرن العشرين، ثم انخفض عدد حافلاته تدريجياً، وتوقف عن العمل قبل أن يعود.
عاد الباص الأحمر ذو الطابقين إلى الظهور داخل العاصمة العراقية بغداد، وبالتالي إلى القيام بدوره المهم في دعم النقل الجماعي الذي كان سيده لعقود طويلة. وأحيا ذلك ذكريات جميلة لدى السكان الذين يعدّونه أحد رموز بغداد.
بالعودة إلى تاريخ الباص الأحمر ذي الطابقين في العراق، كان يفترض أن يدخل في الخدمة في ثلاثينيات القرن العشرين بعدما اتفقت السلطات حينها على شراء مجموعة من حافلاته، لكن ظروف الحرب العالمية الثانية منعت إنجاز الصفقة التي تأجلت إلى عام 1956 حين جرى تسيير أول مجموعة من الباصات الحمراء بطابقين، ما جعل بغداد ثاني مدينة بعد لندن تستخدم هذا الباص.
وكان مدير النقل العام في وزارة النقل، كريم كاظم حسين، أعلن في إبريل/ نيسان الماضي عن وصول 300 حافلة من الباص الأحمر ذي الطابقين. ولفت إلى أن جميع الحافلات ستعمل في مشروع النقل الجماعي.
وأوضح أنه "في حال كانت هناك حاجة لشراء حافلات إضافية فسيحصل ذلك، لكننا نرى أن العدد الحالي للحافلات يكفي علماً أن الحاجة قد تصبح أكبر مع بدء مشروع فك الزحام لأنه سيكون من ركائز تنفيذه من أجل خلق حلول مناسبة للأزمة التي تزداد يوماً بعد يوم في ظل الكثافة السكانية وتوسّع مشاريع البناء والأعمال".
وأشار إلى أن "حافلة واحدة من سيارات النقل الجماعي تعادل 10 سيارات عادية. بالتالي سيكون هناك امتصاص لزخم كبير من عدد السيارات، وهناك خطة متكاملة بإشراف وزير النقل مع الشركة العامة لإدارة النقل الخاص لتحديد عدد الحافلات العاملة في كل خط مقارنة بعدد تلك من قطاع النقل الخاص كي لا يؤثر ذلك على الدخل المعيشي لأصحاب حافلات وسيارات قطاع الخاص".
وفي الأسابيع الأخيرة تواصل افتتاح الخطوط الحيوية لمسارات الباص الأحمر الذي يخدم مناطق مهمة في بغداد، ويستهدف أصحاب الدخل المحدود وطلاب الكليات والمعاهد وعمال المصانع والموظفين.
يقول الصحافي الباحث في التراث العراقي، صالح الجميلي، لـ"العربي الجديد": "كان الباص الأحمر ذو الطابقين جزءاً من التراث الحضري في بغداد، علماً أن العراق احتضن هذه الباصات خلال فترة من تاريخه في جزء من جهود تحسين وتحديث نظام النقل العام".
يتابع: "كانت هذه الباصات أيضاً جزءاً من الحياة اليومية لعراقيين كثيرين من مختلف الطبقات الاجتماعية في بغداد، ما جعلها ضمن النسيج الاجتماعي للمدينة، كما كان الزوار والسياح يبدون إعجابهم بها باعتبارها لم تكن تُشاهد إلا في العاصمة البريطانية لندن. وبالنسبة إلى العراقيين، يرمز الباص الأحمر ذو الطابقين إلى الزمن الجميل حين كانت الحياة أكثر بساطة، والأمور أكثر انتظاماً قبل أن تشهد البلاد أحداثاً عصيبة استمرت عقوداً طويلة".
ويذكر أنه "مع مرور الزمن واختفاء الباص الأحمر من الشوارع زادت قيمة هذه الذكريات التي تعتبر جزءاً من تاريخ العراق وتراثه الذي يفتخرون به، ويعكس ذلك أهمية الارتباط العاطفي للعراقيين بوسيلة النقل تلك التي كانت جزءاً من حياتهم اليومية وثقافتهم الحضرية، ما جعلها أكثر من وسيلة نقل، وتحيي الذكريات الجميلة والتجارب الإنسانية البسيطة التي تميّزت بها الفترات السابقة".
"مصلحة أم الطابقين"
"باص المصلحة" أو "المصلحة" كانت التسمية السائدة للباص الأحمر ذي الطابقين. ولأن دائرة مصلحة نقل الركاب كانت المسؤولة عن النقل العام في العراق، اعتاد العراقيون بالتالي الإشارة إلى الباص بالقول: "مصلحة أم الطابقين".
تقول مروج أكرم لـ"العربي الجديد": "الحديث عن مصلحة أم الطابقين ذو شجون"، وتستعيد ذكريات مشاهد عدة حين كانت طفلة قبل نحو أربعين عاماً، وتستقل الباص للذهاب في رحلات مدرسية وعائلية إلى مناطق أثرية وترفيهية، وتقول: "كان من المألوف أن تستقل العائلات باص المصلحة للذهاب في رحلات ترفيهية إلى مناطق معينة. كان الباص الأحمر متعة بالنسبة لنا حين كنا صغاراً، وجزءا من النزهات".
تضيف: "الجلوس في الطابق العلوي كان يمنح الركاب رؤية بانورامية، ما يجعل الرحلة ممتعة خاصة عند المرور قرب معالم رئيسية مثل نهر دجلة والأسواق القديمة والمتنزهات العامة".
ويمكن بسهولة اكتشاف حب العراقيين للباص الأحمر ذي الطابقين عند الحديث عنه، خاصة لدى كبار السن والأجيال التي استقلته.
وتتعدد أسباب هذا الحب الذي يتعلّق بجوانب عملية وعاطفية وثقافية، فالباص الأحمر يمثل الماضي القريب الذي يصفونه بأنه "جميل وغير معقد"، ما جعله جزءاً من الذاكرة الجماعية للعراقيين.
وتقول حسناء عز الدين، وهي موظفة متقاعدة، لـ"العربي الجديد": "كان الباص يوفر بفضل تصميمه مساحة أكبر للركاب، ويعكس صورة مدينة حديثة ومتقدمة بسبب عدم وجوده إلا في مدن قليلة في العالم. وتميّز باص المصلحة بأن سعر تذكرة ركوبه زهيدة جداً، ويصل إلى محاطات سيره في مواعيد دقيقة، لذا كان يفضله عموم الشعب".
وبالنسبة إلى كثيرين كانت تجربة ركوب الباص الأحمر ذي الطابقين فريدة وممتعة في بغداد، فالطابق الثاني كان يوفر مناظر بانورامية للمدينة، ما يجعل الرحلة أكثر متعة وإثارة، سواء في النهار أو الليل.
وقت ممتع
فعلياً يجمع الباص الأحمر بين الجوانب العملية والعاطفية، وهو ما جعله رمزاً عزيزاً لدى عراقيين كثيرين كانوا يستقلونه لقضاء وقت ممتع أو للتنزه.
ويتذكر عارف الحسون مراحل من شبابه خلال سبعينيات القرن العشرين حين كان الباص جزءاً أساسياً منها، ويقول لـ"العربي الجديد": "كان عدد من خطوط الباصات يمر في مناطق تتضمن بساتين وقصورا فارهة تحتوي على حدائق جميلة، وكنت أقضي وقت فراغي في الجلوس بالطابق العلوي والاستمتاع بالمناظر كأنني في رحلة سياحية. ولم أكن الوحيد الذي يفعل ذلك بل غالبية الناس حين لم تكن بغداد مكتظة بالناس والسيارات مثل الآن، وكان التجول في الشوارع من أهم ممارسات الناس للترفيه عن أنفسهم لا سيما عبر ركوب الباص الأحمر ذي الطابقين".