تحدثت وكالة حراسة الحدود الأوروبية (فرونتكس) أخيراً، عن أمثلة على استغلال أشخاص موجات النزوح واللجوء من أوكرانيا لإخراج أطفال إلى دول أوروبية، ليس بهدف إنقاذهم من الحرب بقدر الإفادة من الواقع المأساوي للاتجار بهم.
وعزز مخاوف "فرونتكس" تقرير أصدرته منظمتا "لا سترادا" و"فريدوم فاند" الحقوقيتان اللتان تتابعان قضايا الاتجار بالبشر واستعبادهم، وتضمن تأكيدهما وجود مؤشرات إلى "حدوث تهريب واتجار بالبشر خلال الأزمة الأوكرانية". وهما ذكّرتا بأن مشكلة الاتجار مستمرة منذ عام 2014، ولاحظتا "تعرض أوكرانيين من كل الأعمار للاستغلال داخل بلادهم وخارج حدودها، وبينها الاتجار لأغراض جنسية، والاستعباد والاستغلال باعتبارهم يداً عاملة رخيصة".
وأورد تقرير المنظمتين أن "استغلال الأوكرانيين في سوق العمل حصل عام 2020 من خلال شبكات للاتجار بهم. وحصل ذلك في روسيا وبولندا تحديداً، حيث دفعوا إلى تنفيذ أعمال محددة في قطاعات البناء والتصنيع والزراعة، وسوق إنتاج التبغ غير الشرعية وتهريبه نحو دول الاتحاد الأوروبي".
حتى أن الأطفال الأوكرانيين لم يسلموا من عصابات الاتجار بالبشر، إذ تحدث التقرير عن "دفع الأطفال إلى التسوّل القسري وارتكاب الجرائم، وتعرضت الفتيات والنساء إلى متاجرة بغرض الاستغلال الجنسي في أراضي أوكرانيا نفسها، ونحن نتوقع أن تزداد مخاطر الاتجار بالبشر مع استمرار الحرب".
استغلال قديم
وكانت السلطات الأميركية لمكافحة الاتجار بالبشر قد كشفت في تقرير نشرته العام الماضي، أي قبل الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا، أن تورط الأوكرانيات والأوكرانيين بالظاهرة تزامن مع انتشار جائحة كورونا في مطلع عام 2020. وسلّط التقرير الضوء تحديداً على استغلال واستعباد الفتيات والنساء في سوق الجنس، وزجّ الشبان في أعمال الجريمة المنظمة والعمل بالسخرة.
ودفع ذلك واشنطن إلى توجيه انتقادات وتوصيات لكييف بإخضاع المدعين العامين الأوكرانيين لتدريبات من أجل مكافحة الاتجار بالبشر، علماً أن التقرير الأميركي انتقد حينها أحكاماً مخففة صدرت في كييف بحق من مارسوا هذه التجارة، واعتبر أنها "تظهر استخفاف القضاة بخطورة الاتجار بالبشر، والقوالب النمطية الراسخة التي تستند إلى انتشار الفساد في أوكرانيا"، واستنتج بالتالي أن "التساهل في الأحكام لا يمكن أن يردع المتاجرين بالبشر".
لكن اللافت أيضاً أن الإدارة الأميركية نوّهت في الوقت ذاته بالجهود التي بذلتها سلطات كييف في فتح "تحقيقات جنائية طاولت عدداً من المسؤولين الحكوميين الذين زعم تورطهم بالظاهرة".
تربة أوروبية خصبة
ومع الأخذ في الاعتبار أن أكثر من 6 ملايين أوكراني تركوا بلدهم في الأسابيع الأخيرة، واضطر ملايين آخرون إلى النزوح في الداخل، ما يمثل بالنسبة إلى الأمم المتحدة "أكبر موجة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية"، تبدو التربة خصبة لاستغلال العصابات وشبكات الجرائم المنظمة للأوكرانيين على أراضي دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن الأنظمة البيروقراطية التي تطبقها بعضها لا تسمح بعمل اللاجئين الأوكرانيين، ما يحرم عشرات الآلاف منهم من الاستقرار في العيش".
وقد تنبهت بعض السلطات، مثل تلك التي في الدنمارك التي وصلها أكثر من 26 ألف لاجئ أوكراني، إلى ضرورة السماح لهم بالانخراط في سوق العمل سريعاً، ولو من خلال تطبيق قوانين استثنائية تسمح لأصحاب مزارع بتوظيف أيد عاملة أوكرانية ولو بربع الراتب المحدد لعامل محلي، لكن ذلك لا يمنع استمرار تحذير منظمات حقوقية كثيرة من غياب استراتيجيات مكافحة الاتجار بالبشر.
البحث عن فرائس
إلى ذلك، أفادت "فرونتكس" بأن "أشخاصاً سافروا بمفردهم إلى أوكرانيا خلال الحرب وغادروا حدودها حاملين أطفالاً أوكرانيين رضع، ما يؤكد استغلال الحرب للاتجار بالبشر"، وعلّقت بأنه "إذا امتلك الأوروبيون أدوات ومؤسسات حقوقية وإنسانية لفضح وتسليط الضوء على الاتجار بالأوكرانيين، يخشى استمرار هذه الممارسة في روسيا، خصوصاً بعد نقل مئات الآلاف قسراً من شرق وجنوب أوكرانيا إليها".
وكانت صحف دنماركية ونرويجية قد نقلت في مارس/ آذار الماضي، أن أوكرانيات حملن أطفالاً معهن إلى دول الشمال خضعن لتدقيق في هوياتهن من قبل رجال قدموا بمفردهم إلى مراكز الاستقبال، قبل أن تتدخل السلطات لمنع اقتراب الناس من هذه المراكز.
كذلك لاحظ عاملون في منظمات إغاثة أوروبية توافد رجال إلى محطات للقطارات والحافلات من أجل إقناع أوكرانيات بالانتقال للسكن معهم، فيما كشفت تقارير بريطانية عن خلل في نظام إعادة توطين الأوكرانيات، تمثل في سماح مسؤولي النظام الاجتماعي باستضافة متهمين بالتحرش بأوكرانيات والاعتداء عليهن، علماً أن بعضهم بحثوا عن أوكرانيات من سن محددة.
مسؤولية الدول
ويرى الناشط الحقوقي في الفرع الدنماركي لمنظمة "مرحبا باللاجئين" مورتن إسكلسن، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "خروج قضية الاتجار بالأوكرانيين إلى الضوء أمر مهم للتحذير من خطورة الظاهرة بالنسبة إلى حكومات الاتحاد الأوروبي التي تتحمل مسؤولية كبيرة في منع تدمير حياة آلاف اللاجئين المهددين بالاستبعاد".
وتعتبر الناشطة في مساعدة اللاجئين ببولندا كريستينا سورنسن أن "فوضى الخروج من أوكرانيا جعلت ضعفاء كثيرين من نساء وفتيات وأطفال يقعون في فخ أشخاص حضروا إلى محطات بحجة المساعدة في نقل لاجئين"، وتكشف أنها تدخلت بنفسها مع زملاء لدى سماعهم أحاديث مشبوهة دارت بين أشخاص قدموا من دول إسكندنافية عن اختيار نساء وفتيات لنقلهن إلى شمال أوروبا.
ومعلوم أن الأوكرانيات اعتقدن في الأيام الأولى لخروجهن من بلدهن أنه لن يسمح لهن بالانتقال من بولندا إلى ألمانيا ودول إسكندنافيا وأخرى في الاتحاد الأوروبي، ما جعل تجار البشر والمهربين يستغلون هذا الاعتقاد الخاطئ لفترة قبل أن تقبل بعض الدول استقبال اللاجئين، وتمنحهم أخرى حق الإقامة 90 يوماً من دون الحصول على تأشيرة. وأشار تقرير "لا سترادا" و"فريدوم فاند" إلى أن "جهل الأوكرانيين بوجود قوانين أوروبية تحمي حقوقهم والخوف الذي انتشر في البداية من احتمال ترحيل من يدخل الاتحاد الأوروبي بلا تأشيرة أوقع بعض النساء وأطفالهن في شباك شبكات التهريب والاتجار بالبشر".
وتؤكد الباحثة المعنية بالاتجار بالبشر والفقر في مؤسسة "فافو" النرويجية غير الحكومية غوري تيلدوم أن اتخاذ الأوروبيين قرار منح جميع الأوكرانيين الحق في نيل حماية مؤقتة خفف ضخامة عدد الذين تعرضوا للاستغلال، وتشدد على أن "هناك رابطاً قوياً بين تأمين المستضيفين لمستلزمات حياة وسكن الفارين من الحرب من جهة، ومكافحة استغلال احتياجاتهم ووقف الاتجار بهم من جهة أخرى. وكلما احتاج الناس إلى الاعتماد على متطوعين غرباء، سيوجد بينهم أناس لديهم نوايا سيئة للإفادة من معاناة اللاجئين عموماً، وبينهم أيضاً أشخاص غير أوكرانيين اضطروا إلى مغادرة البلاد".
وفي الأيام الأخيرة، تنبه وزير العدل الدنماركي المعين حديثاً ماتياس تيسفاي، الذي تولى سابقاً حقيبة وزارة الهجرة والدمج، إلى مخاطر الظاهرة، وصرح بأن "الشرطة الوطنية يجب أن تعمل سريعاً على إنشاء وحدة خاصة معنية بمكافحة الاتجار بالبشر تضم كفاءات ومتخصصين في جرائم الاتجار بالبشر، وتبدأ في العمل سريعاً".
وفي كل الأحوال، تثبت تقارير المؤسسات والمنظمات المعنية بحقوق اللاجئين والإنسان ضرورة انتهاج السلطات الأوروبية سياسات مختلفة تتعلق بمنح اللاجئين المرفوضة طلبات لجوئهم، أو الذين يجهلون القوانين الخاصة بالحماية والتسجيل ولو بصفة مؤقتة لتجنب وقوعهم فريسة شبكات الجريمة المنظمة التي تبحث عن الربح عبر استعباد البشر، واللعب على مخاوفهم وقلقهم من المستقبل المجهول.