ارتبط اسم مدينة أوديسا الأوكرانية منذ تأسيسها في عام 1794، باسم الإمبراطورة الروسية يكاتيرينا الثانية، ولا يزال تمثال لها مع غيرها من مؤسسي المدينة، يتوسط إحدى ساحات المدينة الرئيسية.
وصوّت مجلس مدينة أوديسا، في نهاية الشهر الماضي، لصالح قرار إزالة تمثال الإمبراطورة الروسية، وذلك بعد عدة أسابيع على بدء الأعمال التمهيدية لتفكيك تمثال الإمبراطورة الروسية، شملت تغطيته بحاجز يحيط به، ووضع على الحاجز إعلان مكتوب جاء فيه: "نأسف للإزعاج. تجري أعمال تمهيدية لتفكيك مجموعة تماثيل مؤسسي أوديسا".
بدأت الأعمال فعلياً بعد إعلان عمدة أوديسا، غينادي تروخانوف، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، دعمه تفكيك تمثال يكاتيرينا الثانية على خلفية انتهاء تصويت شعبي عبر منصة "المواطن النشط اجتماعياً" بشأن مصير تماثيل "مؤسسي أوديسا"، وتأييد أغلب سكان المدينة لفكرة التفكيك، ونقل التماثيل إلى حديقة "الماضي الاستعماري للدولة السوفييتية" المقترح إنشاؤها في المدينة.
منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في نهاية فبراير/شباط الماضي، تتعالى الأصوات المطالبة بإزالة التمثال بعد أن تجاوزت المواجهة الروسية الأوكرانية نطاق أرض المعركة، متحولة إلى حرب هجينة ذات أبعاد اقتصادية وتاريخية، وحتى ثقافية.
على الرغم من ذلك، تعتبر كبيرة الباحثين بمتحف الأدب في أوديسا، يكاتيرينا يرغييفا، أنه ينبغي الحفاظ على تمثال يكاتيرينا الثانية، ويمكن تغيير الخطاب الرسمي عن طريق الحديث عنها باعتبارها (ماضياً استعمارياً) تم التغلب عليه.
تقول يرغييفا في حديث لـ"العربي الجديد": "عند الحديث عن إزالة تمثال يكاتيرينا الثانية، يجب تدقيق صياغة المسألة، إذ إن الحديث يجري عن تماثيل مؤسسي أوديسا، ومن بينهم خوسيه دي ريباس، وفرانز دي فولان، وبلاتون زوبوف، وغريغوري بوتمكين، وليس تمثال يكاتيرينا وحدها. هل هذا عقلاني؟ ربما في الظروف الراهنة يمكننا تغيير الخطاب عن طريق الحديث عن يكاتيرينا الثانية على أنها ماض استعماري، لكن ليست هناك ضرورة لإزالة التمثال".
وتلفت إلى أن "النسخة الحالية من تمثال يكاتيرينا ليست الأولى في أوديسا، إذ نصب التمثال أصلاً في عام 1900، ولكن تم تفكيكه بعد ثورة البلاشفة في عام 1917، ولم تتم استعادته إلا في عام 2007، وكأن التاريخ يعيد نفسه اليوم"، وتوضح الباحثة والمرشدة السياحية الأوكرانية أن "شارع وساحة يكاتيرينينسكايا في أوديسا لا يحملان هذا الاسم تخليداً لذكرى الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية، وإنما لتخليد اسم القديسة كاترين الإسكندرانية".
ورغم أن أراضي أوديسا كانت مأهولة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن عام 1794 يعتبر التاريخ الرسمي لتأسيس مدينة أوديسا الحالية، وتضيف يرغييفا: "أصبحت أوديسا مدينة ابتكارية. إذا تحدثنا عنها كمدينة متعددة القوميات تمتعت فيها شعوب مختلفة بالمساواة في الحقوق، أو إذا تحدثنا عن ثقافة فريدة امتصت التأثير اليهودي المتوسطي، فسيكون عام 1794 هو نقطة الانطلاق لكل ذلك".
مع احتدام القتال في أوكرانيا خلال نهاية الشتاء الماضي، تحولت أوديسا إلى هدف للضربات الصاروخية الروسية نظرا لموقعها الاستراتيجي المطل على البحر الأسود، واحتضانها أهم ميناء في أوكرانيا، والذي يشكل بوابة تصدير الحبوب الأوكرانية إلى مختلف أنحاء العالم.
إلا أن يرغييفا تعتبر أن "أهمية أوديسا بالنسبة إلى روسيا لا تقتصر على الواقع الاستراتيجي. عند الحديث عن الحرب الجارية حاليا على الأرض الأوكرانية، ندرك أن هناك مكانة رمزية كبيرة لأوديسا بالنسبة إلى الكرملين، فقد لقبت المدينة سابقاً بأنها (لؤلؤة تاج الإمبراطورية الروسية)، وهذا بالطبع يولد توتراً كبيراً، لأن أوديسا اليوم مدينة أوكرانية وليست روسية".
وتذكّر بأن الحرب الروسية العثمانية ما بين أعوام 1787 إلى 1791، أسفرت عن تخلي الإمبراطورية العثمانية عن مطالبها بانتزاع شبه جزيرة القرم، وردّ الأراضي بين نهري بوغ الجنوبي ودنيستر، بما فيها خادجيبي، إلى روسيا. وخادجيبي هي التسمية التي أطلقها تتار القرم على البلدة الواقعة في الموقع الحالي لأوديسا، إلى أن اعتمدت الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية التسمية الجديدة، وهي الاسم الحالي للمدينة.
أصدرت يكاتيرينا الثانية حينها مرسوماً إمبراطورياً، جاء فيه: "احتراماً للموقع المتميز لخادجيبي على البحر الأسود، وما تترتب عليه من فوائد، رأينا ضرورة أن ننشئ فيها مرفأ عسكرياً وآخر تجارياً، على أن تجري الأعمال تحت إشراف الجنرال الأمير سوفوروف ريمنيتسكي، والذي كلفناه ببناء تحصينات ومنشآت عسكرية".
وتجدر الإشارة إلى أن يكاتيرينا الثانية (1729- 1796) هي إمبراطورة روسية ذات أصول ألمانية، واعتلت العرش عن طريق انقلاب قصر على زوجها، الإمبراطور بطرس الثالث، ودخلت التاريخ كحاكمة إصلاحية حاولت تجسيد أفضل أفكار التنوير الأوروبي في المجتمع الروسي، بما في ذلك إصلاح مجلس الشيوخ، وتدعيم تبعية الكنيسة للدولة، وتوحيد إدارة أراضي الإمبراطورية الروسية، وإنشاء مجموعة من المؤسسات التعليمية للنساء، وغيرها من الإجراءات التقدمية في ذلك العصر.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، أسفرت سنوات حكم يكاتيرينا الثانية عن تنامي نفوذ الإمبراطورية الروسية في الشؤون الأوروبية، وتعزيز مواقعها في منطقة البلطيق، وضم شبه جزيرة القرم، وجورجيا، ومناهضة قوى الثورة الفرنسية التي عارضتها الإمبراطورة الروسية بقوة، وكان ذلك ردا على إعدام الملك الفرنسي لويس السادس عشر، آخر ملوك آل بوربون في عام 1793.
وأظهر استطلاع أجراه "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" (حكومي)، ونشرت نتائجه في سبتمبر/أيلول الماضي، أن ما بين 5 إلى 10 في المائة من المستطلعة آراؤهم، يعتبرون يكاتيرينا الثانية رمزاً لروسيا بين الشخصيات التاريخية، بينما تصدر القائمة أمير الشعراء الروس، ألكسندر بوشكين، ومؤسس الإمبراطورية الروسية، بطرس الأكبر، والدكتاتور السوفييتي، جوزيف ستالين، متفوقين بفارق كبير على غيرهم من الشخصيات التاريخية.