رغم الصحوة الدينية التي عرفها الجزائريون في السنوات الأخيرة، والتغيّرات التي شهدها المجتمع، خصوصاً الجيل الشاب الذي بات أكثر ميلاً للتخلي عن العادات والتقاليد، ما زالت زيارات المقامات والأضرحة تحظى بقدسية ومكانة خاصة، كما تتعدد الاحتفالات المواكبة لها في المناطق تجسيداً لما يعرف في الثقافة الشعبية المحلية باسم "الوعدات"، التي تستهدف طلب بركات أو التوسط لقضاء احتياجات والوصول الى غايات محددة، قد تعتبر الملاذ الأخير بالنسبة إلى بائسين وفاقدين للأمل من أمور مختلفة، بينها الرزق والزواج والشفاء من أمراض.
تحضر النساء في هذه "الوعدات" مأكولات تقليدية متنوعة، ويجرى إعلان مواعيدها في الأسواق الشعبية القريبة تمهيداً لجمع أهالي المنطقة في اليوم المحدد ولقاء كل فئات المجتمع لتناول هذه المأكولات، وممارسة عادات وتقاليد متجذرة منذ القدم، بينها أيضاً تنظيم سباقات للخيل وجمع أموال لتهيئة الأضرحة، أو التبرع بها لصالح مرضى، أو لإنجاز مشاريع تجلب المنفعة العامة للمنطقة.
طقوس
وخلال الزيارات المتكررة لأضرحة الأولياء الصالحين، تتزود النساء، الأكثر إقبالاً على هذه المراسم، بمناديل وأقمشة جديدة فاخرة متعددة الألوان، وفي مقدمها اللون الأخضر السائد. وأحياناً تتصدق هذه النساء بخرفان لإرضاء وتحقيق رغباتهن، في وقت تبقى أخريات برفقة أزواجهن أمام قبور الأولياء الصالحين، ويطفن حولها مرددين عبارات التوّسل لله من أجل تنفيذ الطلبات .
وعن الطقوس المختلفة التي تمارس في الأضرحة والمقامات، يقول النشاط الاجتماعي والإعلامي في منطقة تلمسان، أقصى غربي الجزائر، شقرون عبد القادر، لـ"العربي الجديد": "نلاحظ لدى زيارة ضريح الوالي الصالح سيدي بومدين بتلمسان ممارسة طقوس كثيرة تعود إلى سنوات طويلة، وبينها طرق باب الضريح سبع مرات على التوالي، والدخول بقدمين حافيتين، والقيام بثلاث خطوات مع الدعاء لتحقيق أمر معيّن، وذلك لضمان الحصول على استجابة للدعوة، وكذلك تنفيذ غالبية الزيارات يوم السبت الذي يشهد حضوراً كبيراً للناس، الذين يأتي بعضهم للسياحة، وآخرون للصلاة أو لطلب قضاء حاجة من الولي سيدي بومدين".
سيدي عبد القادر، سيدي الهواري، سيدي البشير، سيدي الحسني، أسماء تضمها قائمة كبيرة للأولياء الصالحين الذين تحوّلت أضرحتهم مع مرور الوقت إلى مزارات شبة مقدسة للجزائريين، لا سيما لمرضى يئسوا من الشفاء على أيدي الأطباء، أو فتيات يردن الحصول على عرسان، او أزواج استعص عليهم إنجاب أطفال. وإذ تتعدد أسباب الزيارات، تبقى الغاية الوحيدة الحصول على البركة من شخص يملك كرامات وحظوة لدى الله الذي كان قريباً منه، ما يجعل دعاءه مستجاباً كوسيط بحسب ما يعتقده الزائرون.
وعلى الحدود بين محافظتي عين الدفلى وتيبازة، يوجد مقام سيدي عبد الله بوعمران، حيث ينظم احتفال خاص مرتين في السنة يترافق مع تجمع نساء من كل حدب وصوب، وبينهن من مناطق بعيدة، لتحضير مأكولات متنوعة، وتنظيم وضع شموع ومناديل، وترديد دعوات فريدة وأخرى جماعية من أجل الاستجابة لطلبات شفاء مرضى، وإنزال المطر، وزواج فتيات فقدن الأمل في الحياة. وتقول فاطمة هندي البالغة 70 عاماً لـ"العربي الجديد: "لم يتخلَ أهالي المنطقة عن هذه التجمعات حتى خلال سنوات العشرية السوداء خلال تسعينيات القرن الماضي، رغم التهديدات التي كانوا يتلقونها من الجماعات الإرهابية، فنحن فعلياً لا نشرك بالله، بل نحاول أن نجتمع في أيام مباركة للقاء الأحبة، وخلق أجواء اجتماعية تعكس التضامن بين أبناء المنطقة وكل الناس" .
من كل الفئات
ويقول الدكتور في جامعة يحيى فارس، بمحافظة المدية، أحمد سامة، الذي أجرى قبل سنوات دراسة عن أسباب زيارة الجزائريين الأضرحة وتقديسها، لـ"العربي الجديد": "أظهرت الدراسة أن لجوء الناس للمقامات وقبور الأولياء لا يقتصر على فئة معينة من المجتمع، بل يشمل أيضاً مثقفين ورجال دولة ينشدون الحصول على بركات تجعلهم يحصلون على مناصب أعلى، أو حتى طرد العين والحسد عنهم، وأيضاً الوصول إلى أهداف لم يحققها أطباء أو رقاة. وتروى أساطير كثيرة عن النتائج الإيجابية لزيارة الناس المقامات، ما يشكل وسيلة لتشجع كثيرين على مواكبة تقاليد الزيارات ومواصلتها، ما يعني أنها ستظل ظاهرة سائدة وعادة راسخة في عمق المجتمع الذي يصعب أن يتخلى عنها".
ودفعت القيمة الكبيرة التي تحظى بها بعض الأضرحة فنانين إلى ذكرها في أغانٍ. وتعبّر الأغنية الشعبية المعروفة "سيدي بومدين جيتك قاصد أجيني في المنام نبرا (أشفى)" عن أمنيات مرتبطة بروح الولي الصالح سيدي بومدين المدفون في منطقة تلمسان (غرب)، والتي تشمل بائسين وفاقدين للأمل من الشفاء من أمراض نفسية، ومن حل المشاكل الاجتماعية.
مواقع اجتماعية
وتقول سليمة رزوقي، وهي موظفة في مدرسة ابتدائية، لـ"العربي الجديد": "لا أتأخر في زيارة الضريح والتبرك به. وفي كل مرة تتيسر أموري بعد كل زيارة أحاول أن أصطحب زميلاتي لزيارة الضريح. وهذا أمر يدخل في صلب معتقداتنا وثقافتنا المحلية".
وخلال فترة العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي، استهدفت جماعات مسلحة، حاربت ظاهرة زيارة الناس الأضرحة والمقامات وسعيهم إلى أخذ بركات منها، عدداً من هذه الأماكن وفجرتها، كما منعت سكان بعض المناطق من إقامة ولائم في هذه المقامات، لكن الظاهرة عادت بقوة أكبر بعد استقرار الوضع الأمني في البلاد بسبب النظرة الاجتماعية لأضرحة الأولياء الصالحين، التي تعكس نوعاً من التدين الشعبي، واعتبار هذه الأماكن محايدة ولا يمكن انتهاك حرمتها، خاصة في مواسم "الوعدة" او "الزيارة" التي باتت نوعاً من السياحة الدينية. كما يعتبر البعض هذه الرقع الجغرافية بمثابة مواقع اجتماعية تتعدد فيها التفاعلات بين الأفراد والجماعات الاجتماعية، وتشكل وسائل للتعارف بين العائلات بقصد التناسب والتجارة، وصولاً إلى الاستغلال السياسي من أجل حصد الأصوات.
حذر المؤسسة الدينية
ورغم أن زيارة أضرحة ومقامات الأولياء تبقى ظاهرة اجتماعية وموروثاً ضمن الثقافة الشعبية المحلية التي عرفها المجتمع الجزائري منذ القديم، وتشكل أماكن لقضاء احتياجات صحية ونفسية، وطلب مشورات وربط العلاقات الاجتماعية، تبدو المؤسسة الدينية الرسمية في الجزائر حذرة منها، إذ تتخوف من أن تأخذ المسألة أبعاداً تمس بالمرجعية الدينية المحلية، وتخلط قيم الإسلام بالشعوذة والدجل. ويعتبر الإمام عبد القادر، المسؤول في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "الحكم الديني واضح على صعيد عدم السماح بوضع وسيط بين العبد وخالقه، لأنه يصبح شركاً، وما يفعله الناس خلال زيارتهم قبور الأولياء هو التوّسل إليهم والاستغاثة بهم، وتقديم نذور وذبائح للتقرب إليهم، وطلب احتياجات منهم مثل شفاء مرضى أو رد غائبين أو طلب الإنجاب وغيرها، وهذه أمور لا تجوز شرعاً".