رغم مرور أكثر من 16 عشر عاماً على تلك الحادثة، إلا أن الأسير الفلسطيني المحرر باسل كتانة من مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، يتذكرها جيدا، فهي التي أظهرت شجاعة غير مسبوقة للشهيد الأسير كمال أبو وعر الذي استشهد أمس الثلاثاء، عندما واجه وحدة "نحشون" الإسرائيلية المتخصصة بقمع الأسرى ورفض الانصياع لأوامر الضابط، رغم تعرضه للضرب العنيف حتى فقدانه الوعي.
أبو وعر البطل
يقول كتانة لـ"العربي الجديد": "كان ذلك عام 2004 خلال نقل مجموعة من الأسرى إلى المحكمة العسكرية، وكان معنا أبو وعر، فقد كان يتسم بالهدوء والابتسامة الآسرة، تعارفنا كما هي العادة بشكل سريع، فسنقضي معاً عدة أيام قاسية سفراً في الصناديق الحديدية المعروفة باسم (البوسطة)".
ويتابع، "بعد يوم وليلة، بدأت أدرك أن أمراً مخفياً وراء تلك الابتسامة، وروح التحدي كلما ظهر أمامنا أفراد الوحدة التي تسمى (نحشون)، وهي الوحدة الخاصة المدربة بعناية لمرافقة الأسرى في تنقلاتهم، ومن أهم أبجديات تدريباتهم، العنف والقسوة، وصلنا المحكمة، وكان له معاملة خاصة، كلهم كانوا يعرفونه، وينادونه باسمه ويقذفونه - وهو محافظ على رباطة جأشه وابتسامته- بين بعضهم محاولين استفزازه، ثم اقتادوه إلى المحكمة".
يصمت كتانة برهة وكأنه يراجع ذاكرته، "نصف ساعة، وبدأنا نشعر بحركة غريبة، تحركات سريعة من الحراس، تجهيز لأدوات القمع، صيحات ترهيب وترويع، وصوت يقول بالعربية: قول آسف!!". وجواب بنبرة أقوى: مش آسف، الله أكبر!!!! تعالى صوت مختلط بوقع الضربات واللكمات، قول آسف، قول آسف، وكان الرد: الله أكبر الله أكبر. فلم نعِ أنفسنا إلا ونحن نردد جميعا (الله أكبر الله أكبر)، ثوان قليلة وكان غاز الفلفل يختلط مع ما يجري في أمعائنا".
استيقظ كتانة من غيبوبة قصيرة، فوجد أبو وعر إلى جانبه مضرجاً بدمائه، لكنه ما زال محتفظاً بابتسامته، إلا أنها ازدادت تألقاً وبهاءً، كما يقول، ويتابع: "نظرت إلى كمال فبادر بالحديث قبل أن أساله عما جرى، يتهمونني بقتل الجندي الدرزي (مدحت يوسف) أثناء معركة (قبر يوسف) بنابلس مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وقائد وحدة الحراس ضابط درزي، حاول أن ينتقم لنفسه ولطائفته مني، وأن ينتزع كلمة، لو انتزع روحي مكانها لكان أهون عليّ".
يختم كتانة حديثه، "كان ذلك أول موقف جمعني بالشهيد كمال أبو وعر، وبعدها رأيت منه طيلة سنوات اعتقالي الخمس مواقف بطولية كثيرة".
قصته في إضراب الكرامة
أما الأسير المحرر يعقوب أبو عصب من القدس المحتلة، فيروي قصة جمعته بالشهيد أبو وعر خلال الإضراب الذي خاضته الحركة الأسيرة عام 2012 وعرف بـ"(إضراب الكرامة)، حيث يقول أبو عصب لـ"العربي الجديد": "كنا في إحدى غرف سجن جلبوع، وبعد مرور أيام لا أذكر عددها على دخولنا الإضراب، سمعنا جلبة على باب غرفتنا، وإذ بمجموعة من أسرى حركة فتح أعلنوا انضمامهم للإضراب على الرغم من موقف حركة فتح المعارض للإضراب حينها".
يضيف أبو عصب، واصفاً المشهد آنذاك "تعالت التكبيرات، وارتفعت المعنويات، وعادت العافية للأجساد المنهكة، وبعد أن توزع الأخوة المتضامنون على غرف القسم، وكان من نصيب غرفتنا شاب تبدو عليه علامات الرجولة والمروءة والأدب، استقبلناه بالترحاب، وجلسنا للتعارف، فإذا به أبو وعر، حان موعد الصلاة، فكان أول المتجهزين لها والملتزمين بوقتها، وتكسرت بيننا الحواجز بسرعة، فكان قمة في الوطنية والفهم والالتزام".
وبالفعل، فقد بقي أبو وعر ومن معه من أبناء تنظيمه السياسي على موقفهم طيلة الإضراب، الذي استمر لثمانية وعشرين يومًا.
يقول أبو عصب: "كان موقفاً وحدوياً بامتياز من الشهيد أبو وعر، أسهم دون أدنى شك في نجاح الإضراب وتحقيقه للكثير من أهدافه، وبعد ذلك بقيت علاقتنا طيبة ونتزاور بين الأقسام، ولعب الشهيد دوراً مؤثراً في لم شمل الحركة الأسيرة، وفقدانه خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني".
تسليم الجثمان
أما في منزلها في بلدة قباطية جنوب مدينة جنين شمال الضفة الغربية، فتستقبل العائلة المواسين، بانتظار رد سلطات الاحتلال على الطلب الذي قدمته من خلال منظمة الصليب الأحمر الدولي وهيئة شؤون الأسرى الفلسطينية لتسليم جثمان الشهيد لمواراته الثرى في مقبرة البلدة، وعدم تركه في ثلاجات الموتى لدى الاحتلال.
يقول شقيقه محمد أبو وعر لـ"العربي الجديد": "إن آخر زيارة كانت للشهيد في فبراير/ شباط الماضي، حيث التقاه والدي في مستشفى سجن الرملة، لكنه كما أبلغونا كان قوياً وحاول جاهداً أن لا يشعرنا بآلامه، رغم أننا كنا قد علمنا بإصابته بسرطان الحنجرة نهاية العام الماضي، هذه طبيعة كمال، فهو صلب وقادر على مواجهة التحديات قبل الاعتقال وبعده".
ويتابع، "حاولنا جاهدين طيلة الأشهر الماضية زيارته، وكان الوالدان يصلان إلى باب السجن إلا أن إدارته ترفض السماح لهما بالدخول بحجة منع الزيارات بعد ظهور فيروس كورونا، لكن الأمور باتت أسوأ عليه بعد إصابته به، وهو ما ترافق مع خضوعه لجلسات إشعاع نووية لعلاج السرطان، فتراجعت صحته بشكل كبير ومتسارع".
ويشير أبو وعر شقيق الشهيد كمال، إلى أن الأطباء أبلغوه قبل نحو شهرين، بإصابته بسرطان جديد في الحنجرة امتد إلى الرئتين، وهو ما أظهرته الصور الطبقية قبيل خضوعه لعملية جراحية لإزالة الغدد الليمفاوية المصابة.
وفي شهر يوليو/تموز الماضي، نُقل أبو وعر من سجن "جلبوع" إلى أحد المستشفيات التابعة للاحتلال، وبعدها أعلن الاحتلال عن إصابته بفيروس كورونا، وخضع بعد فترة وجيزة لعملية جراحية لزراعة أنبوب تنفس في مستشفى "أساف هروفيه"، ثم جرى نقله إلى سجن "عيادة الرملة" أو ما يسميه الأسرى "بالمسلخ"، ثم أعيد لاحقاً للمستشفى، حيث توفي هناك أمس.
من جهتها، أفادت هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية في بيان صحافي، عصر الأربعاء، بأن إدارة سجون الاحتلال نقلت صباح اليوم جثمان الشهيد الأسير كمال أبو وعر الى معهد الطب العدلي "أبو كبير"، لإجراء معاينة خارجية وفحص ظاهري للجثمان .
وأشارت الهيئة إلى أن أنه كان قد أُعلن عن استشهاد الأسي أبو وعر مساء الثلاثاء، بمشفى "أساف هروفيه"، بعد صراع مع مرض السرطان، حيث أصيب أبو وعر بسرطان الحنجرة والحلق نهاية العام الماضي 2019، وقد خضع لعلاج إشعاعي بعد إهمال طبي متعمد من قبل إدارة معتقلات الاحتلال، ومن ثم تدهورت حالته بشكل سريع فتم تحويله لإجراء عملية زرع أنبوب بلاستيكي لمساعدته على التنفس.
وأضافت الهيئة، أن إدارة سجون الاحتلال كانت قد أعلنت عن إصابة الأسير أبو وعر بفيروس كوفيد 19 خلال يوليو/تموز الماضي، وذلك بعد نقله من معتقل "جلبوع" الذي كان يقبع فيه حينها إلى أحد المشافي الإسرائيلية، وبعدها تم نقله إلى ما يسمى "مشفى الرملة"، ليواجه الموت البطيء كغيره من الأسرى المرضى القابعين فيه، فالمشفى تنعدم فيه الخدمات الطبية والصحية، ولا يوفر أي علاج للأسرى سوى المسكنات والأدوية المنومة.
وحملت هيئة الأسرى سلطات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن حياة الأسرى في سجون الاحتلال، وأسلوبها المتعمد والمقصود بإهمال أوضاعهم الحياتية والصحية، والتي كان آخر نتائجها استشهاد الأسير كمال أبو وعر أحد ضحايا الإهمال الطبي المتعمد.
وطالبت الهيئة بضرورة تشكيل لجنة تحقيق خاصة وزيارة السجون للاطلاع على خطورة الأوضاع التي يعيشها المعتقلون في سجون الاحتلال الإسرائيلية.
سيرة ذاتية
ولد الأسير كمال أبو وعر في تاريخ الـ25 من يوليو/تموز عام 1974م في الكويت، وسبق عائلته بالعودة إلى فلسطين بخمس سنوات، وهو الابن الثاني لعائلة مكونة من ستة أفراد، تقيم في بلدة قباطية جنوب جنين شمالي الضفة الغربية.
وأكمل كمال أبو وعر الثانوية العامة، والتحق بقوات الـ17 التابعة للسلطة الفلسطينية، واستمر الاحتلال بمطاردته لثلاث سنوات على خلفية مقاومته للاحتلال قبل اعتقاله عام 2003م، وتعرض لتحقيقٍ قاسٍ استمر لأكثر من 100 يوم بشكل متتال، وحكم عليه الاحتلال بالسّجن المؤبد المكرر 6 مرات، و50 عاماً.
وعانى الأسير أبو وعر من مشاكل صحية سابقة في الدم خلال فترة اعتقاله، وتمكن من علاجها، لكن في منتصف العام الماضي، بدأت حالته تتراجع، ليتبين أنّه مصاب بسرطان الحلق والأوتار الصوتية، بالإضافة إلى تكسر في صفائح الدم، وخضع لاحقاً لجلسات إشعاع في مستشفى "رمبام" بمدينة حيفا في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وخلال عملية نقله كان يُثبّت على السرير وهو محاصر بثلاثة من جنود الاحتلال مشهرين أسلحتهم تجاهه، كما يجري تكبيل قدميه ويديه بالأصفاد وتثبيتها في السرير.
وباستشهاد أبو وعر يوم أمس، يرتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 226 شهيداً منذ عام 1967.