لا تكاد تخلو مؤسسة حكومية في الصين من وجود أسدين حجريين أمام مدخلها بأحجام كبيرة يتجاوز ارتفاعها ثلاثة أمتار، ولعلّ أشهرها الأسود الموجودة أمام بوابات قصر الإمبراطور (المدينة المحرّمة) في العاصمة بكين. واللافت في هذه الأسود أنها توضع في شكل مزدوج، الأول على اليمين يظهر فاتحاً ثغره ويثبت مخلبه الأيمن على كرة حجرية، والثاني على اليسار يتميز بثغره المغلق ويداعب عادة شبلاً صغيراً. ويختلف شكلها عن الملامح المعروفة للأسود فالعيون أكثر بروزاً، والفك أكثر اتساعاً، والأسنان متناسقة لا تظهر فيها الأنياب وتشبه إلى حد كبير أسنان الإنسان. وقد أرجع مراقبون ذلك إلى عدم معرفة النحاتين الصينيين القدماء بشكل الأسد الحقيقي لأنهم لم يروه من قبل في بلادهم.
وحسب الحكايات التاريخية، دخلت الأسود إلى الصين خلال مرحلة حكم أسرة هان (202 و221 قبل الميلاد)، كهدية من بلاد فارس في إطار التبادلات الثقافية عبر طريق الحرير، فأعجب بها الصينيون واعتبروها رمزاً للقوة والسلطة، وباتوا ينحتون أجساماً مشابهة لها من الأحجار والصخور. ومنذ ذلك الحين، أصبحت تنصب أمام القصور والمقابر الإمبراطورية والمكاتب الحكومية والمعابد ومنازل المسؤولين الحكوميين والأثرياء، للاعتقاد بأنها تملك ميزات حماية أسطورية تحصّن السكان من الأرواح الشريرة.
للإمبراطور والنخبة
يوضح الباحث في معهد الجنوب للدراسات التاريخية، جيانغ تسي، في حديثه لـ "العربي الجديد"، أن "الأسد يعتبر وفق الثقافة الصينية حيواناً أسطورياً أكثر من كونه حقيقياً، ولأنه دخل للمرة الأولى كهدية تلقاها الإمبراطور من وفود أجنبية زارت البلاد، وارتبط اسمه بالقوة والسلطة باعتبار أن الصينيين حينها، وبالتحديد في عهد أسرة هان الحاكمة، اعتقدوا بأن هذا النوع من الحيوانات خاص بالنخبة الحاكمة، مهمتها حراستهم وحمايتهم مع أفراد حاشيتهم. وما يعزز هذا الاعتقاد حديث العرافين في تلك الحقبة عن قدرات أسطورية للأسود في درء الأخطار وطرد الأرواح الشريرة من أي مكان تتواجد فيه، لذلك راجت فكرة نحتها ونصبها كتعويذة عند مداخل المدن وأمام القصور الإمبراطورية". ويشير إلى أن بعض هذه المنحوتات لا تزال ماثلة حتى اليوم، مثل الأسود الحجرية المصفوفة على جانبي جسر ماركو بولو الشهير في العاصمة بكين".
وعن أسباب وجود زوجين من الأسود معاً ودلالات وضعهما على اليمين واليسار، يقول جيانغ: "يرتبط ذلك بالفلسفة الصينية التقليدية التي تُعرف باليين واليانغ، ويرمز إليها بدائرة تمثل الكون، وتنقسم إلى نصفين متساويين، أولهما أبيض يمثل الطاقة الإيجابية مثل الحياة والقوة والشدة، والثاني أسود يمثل الطاقة السلبية مثل الموت والضعف واللين. ووفق هذه الفلسفة يوضع الأسد الذكر على الجهة اليمين ويمسك بمخلبه كرة حجرية ترمز إلى الأرض، ممثلاً السيادة والسلطة والهيمنة، بينما تتمركز الأنثى على اليسار وهي تداعب شبلاً لعكس العاطفة والليونة.
موروث شعبي
يقول تشو بينغ الذي يبيع الأسود الحجرية في سوق بان جيا يوان بمدينة بكين لـ"العربي الجديد": "يقبل الناس حتى اليوم على شراء الأسود الحجرية لوضعها أمام منازلهم ومحالهم التجارية بهدف التبرك بها والتحصن من الفأل السيئ، وأنا لا أبيع الأسود إلا بصورة مزدوجة، وأحدد سعرها بحسب حجمها ونوع المادة المستخدمة في نحتها، لكنها لا تقل في المتوسط عن ألف دولار، ولا تزيد عن خمسة آلاف". يضيف: "في السابق اقتصر اقتناء الأسود الحجرية على النخبة الحاكمة وطبقة النبلاء في المجتمع، وكانت تصنع من أحجار مزخرفة مثل الرخام والغرانيت، وهي مواد غالية الثمن، لكنها أصبحت أكثر شيوعاً لاحقاً، وباتت تنحت من الأسمنت والنحاس والبرونز، وبالتالي أصبحت في متناول عامة الشعب الذين يريدون الحصول عليها والاحتفاظ بها أمام منازلهم، فالأمر تحوّل إلى موروث شعبي بعدما كان تقليداً خاصاً بالبلاط الإمبراطوري".
ويشير إلى أن الأسود استخدمت أيضاً في سياقات فنية أخرى، مثل صناعة مقارع الأبواب والفخار. ولا تزال أزواج تماثيل الأسود الحارسة تعتبر عناصر زخرفية ورمزية شائعة عند مداخل المطاعم والفنادق ومحلات السوبر ماركت وغيرها من المباني، إذ يجلس زوج منها على المدخل في الصين وأماكن أخرى في العالم هاجر إليها الصينيون واستقروا فيها، خصوصاً في الحي الصيني الذي يتواجد في كل بلد.
ويتحدث بان جيا عن "صراع افتراضي في الموروث الشعبي بين الأسد والتنين الذي يمثل أيضاً القوة في الثقافة الصينية. ويعتبر التنين أكثر خصوصية بالنسبة إلى الصينيين ويتمتع بمكانة عالية باعتباره رمزاً للسيادة، كما يستخدم للإيحاء بقوة الصين الحديثة وصعودها في العالم. لكن ذلك لم يدفع المراكز السيادية والمقار الحكومية إلى وضع تماثيل للتنين بل للأسود. وظل استخدام مجسم التنين يقتصر فقط على المهرجانات والأعياد التقليدية، إضافة إلى وجوده في القصص والروايات التاريخية.
ويعلّق الباحث الاجتماعي شياو خي بالقول لـ "العربي الجديد": "التنين أعلى قيمة من الأسد من المنظور الصيني، وأكثر قوة منه، وحيكت أساطير عدة حوله، فلا تكاد تخلو قصة تاريخية من ذكره. لكن ما يجعل الأسود الحجرية أكثر شيوعاً هو الاعتقاد بأن لديها قدرات خارقة على حماية الناس، في حين أن التنين مقاتل شرس لكنه لا يتمتع بقدرات الحارس الأمين". يضيف: "جعلت الحروب المتعاقبة في تاريخ الصين القديم الشعب يحتاج دائماً إلى من يدافع عنه ويشعره بأمان، لذا انتشرت في تلك الفترة التعويذات والأساطير الشعبية حول قدرة بعض المخلوقات على حماية الناس، مثل الفيل الآسيوي، وطائر فنغ هوانغ الأسطوري غير الموجود في الطبيعة، وكذلك الأسود. ورغم مرور مئات من السنين على هذه القصص، فهي لا تزال حاضرة حتى اليوم في ذاكرة ووجدان الشعب".