تُسجّل المدن العراقية المختلفة تصاعداً في ظاهرة هجرة الأطباء وذوي التخصصات الطبية المختلفة إلى خارج البلاد، بحثاً عن العمل أو واقع معيشي أفضل، رغم تصريحات سابقة ومتكررة للسلطات الصحية في بغداد تتحدث عن وجود نقص في الكوادر الطبية وسعيها لترغيب الأطباء المهاجرين في العودة بعروض مختلفة، من بينها توفير السكن والمرتب.
في المقابل، تتواصل بلاغات الاعتداءات على الطواقم الطبية والصحية في مختلف مدن العراق، رغم تعهدات سابقة للسلطات الأمنية بتغليظ عقوبة الاعتداء عليهم.
وسجلت مدينة السليمانية أقصى شمالي البلاد ضمن إقليم كردستان، الأسبوع الماضي، حالة اعتداء على طبيب بمركز صحي بعد وفاة رجل مسن، إذ ضرب عدد من ذويه أحد الأطباء، تحت مزاعم عدم قيام الطبيب بإنقاذه.
وشكّلت جائحة كورونا التي ضربت البلاد مطلع يناير/كانون الثاني 2020، تحدّياً كبيراً أمام القطاع الصحي العراقي، الذي فقد أكثر من ألف طبيب وموظف صحي خلال الفيروس، إلى جانب تضرر البنى التحتية بعد سلسلة حرائق وفوضى كانت نتيجة خروج الأوضاع عن السيطرة بعد استقبال آلاف الحالات الحرجة يومياً.
ووفقاً لمسؤول عراقي بارز في وزارة الصحة، فإنّ هناك نقصاً حاداً في عدد من الاختصاصات الطبية مع استمرار هجرة الأطباء إلى الخارج، وتحديداً تخصصات التخدير والأورام السرطانية وجراحة الأعصاب والأوعية الدموية والصحة النفسية، إلى جانب تخصصات فنية أخرى مثل الأشعة وأجهزة السونار و(الإكو) وغيرها، مؤكداً أن العراق بحاجة أيضاً إلى 16 مستشفى بشكل عاجل ونحو 30 ألف من تلك التخصصات تتطلبه المستشفيات العراقية في المجمل.
وأشار في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن برنامج إعادة الأطباء المهاجرين للعراق، متعثر بشكل شبه كامل، بل هناك هجرة لهذه الشريحة إلى دول أجنبية وأخرى عربية، إن كان بداعي إكمال الدراسة وأخذ التخصص الأعلى، أو للعمل، لكنهم لا يعودون مرة أخرى إلى العراق.
واعتبر أن إجازة السنوات الخمس للموظف التي أقرتها الحكومة كإحدى معالجات الأزمة المالية، كانت أحد أسباب تفاقم نقص الكوادر الطبية والصحية أيضاً، حيث سجل العام الحالي مغادرة أكثر من ألف طبيب عراقي للبلاد تحت حجج وذرائع مختلفة، بينها الدراسة وظروف خاصة، لكن على الأغلب أنهم قرروا إكمال حياتهم خارج العراق"، على حد تعبيره.
وفي وقت سابق، أعلنت الحكومة العراقية توجهها نحو استقدام فرق طبية أجنبية لعلاج المرضى العراقيين بدلاً من إرسالهم إلى الخارج، حيث يسافر سنوياً عشرات آلاف العراقيين إلى دول أبرزها الهند وتركيا وإيران والأردن ولبنان للعلاج على نفقتهم الخاصة، وتشير أرقام غير رسمية إلى أن نحو 200 مليون دولار ينفقها العراقيون على العلاج خارج البلاد سنوياً.
الدكتور حيدر الطائي، طبيب متخصص، أحد الذين غادروا العراق عقب الغزو الأميركي للبلاد سنة 2003، حيث سجلت بغداد عشرات عمليات الاغتيالات بحق أطباء وكفاءات مختلفة على يد مليشيات وعصابات الجريمة المنظمة، يقول لـ"العربي الجديد": "إن المشكلة الحقيقية التي تواجه القطاع الصحي السيئ في العراق عدم وجود دولة تحكمها المؤسسات، بالإضافة إلى سيطرة الأحزاب والمليشيات".
ويضيف أن "هجرة الأطباء قبل الاحتلال الأميركي كانت بسبب الوضع المادي الصعب في البلد، أما بعد الاحتلال، فظهرت أسباب أكثر، أبرزها الوضع الأمني المتردي، وعدم توافر منظومة صحية صحيحة، بالإضافة إلى الظروف التي مر بها العراق منذ الاحتلال، كالاقتتال الطائفي، والتهجير، والتهميش، وغياب كل مؤسسات الدولة الحقيقية".
في السياق ذاته، يقول الطبيب أحمد العاني الذي يعمل طبيباً مقيماً في أحد مشافي بغداد الحكومية في حديث مع "العربي الجديد"، إن بلاده "ليست بحاجة ماسة للاستقدام بقدر حاجتها لرفع الواقع الصحي الحالي"، في إشارة إلى تهالك البنى التحتية للمستشفيات العراقية ونقص عددها.
ويتابع: "الاستقدام سيحل جزءاً من المشكلة، لا كلها، وعدد الأطباء الحالي في العراق كافٍ، إلا أن الدولة لا تشجعهم على البقاء، ولا توفر لهم تعيينات في القطاع الحكومي، ما يضطرهم إلى البحث عن فرص أفضل خارج البلد".
وحول ذلك قال عضو نقابة الأطباء العراقيين، أحمد عبد الكريم الشيخلي، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن الهجرة لا تقتصر على الأطباء فقط، بل هناك شرائح كثيرة بينهم مهندسون وأساتذة جامعات واختصاصات مختلفة، تسعى للهجرة، والعامل الاقتصادي والبحث عن مكان آمن اجتماعياً ومستقر ومريح هو الدافع الأكبر"، معتبراً أن الاعتداءات التي تواجه الأطباء تراجعت كثيراً في الفترة الماضية، لكن الطبيب مثله مثل غيره من العراقيين يريد العيش بمكان مستقر ومريح له ولأفراد أسرته".
واعتبر أن العشوائية والفوضى في القطاع الصحي لو عولجت واعتُمِدَت الإدارة الحديثة والنظام الإلكتروني في التعامل اليومي، لما كان هناك نقص كوادر طبية في العراق، خاصة مع وجود دفعات سنوية تُخرَّج سنوياً من الجامعات العراقية".