- تسهم هذه الاحتجاجات في تطوير الأكاديميا بإدخال حقول دراسية جديدة كالدراسات الإثنية، رغم مواجهتها لمحاولات القمع من الشرطة وإدارات الجامعات، مما يعيد ذكريات أحداث قمعية سابقة.
- يبرز الحراك الطلابي الحالي بنضجه وتأثيره العالمي، معززاً التضامن بين حركات مثل "حياة السود مهمة" والنضال الفلسطيني، ويدعو لسحب الاستثمارات من شركات الأسلحة والداعمة للاستيطان.
أعادت احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية المتواصلة والمتصاعدة ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والدعم الأميركي الواسع لها، إلى الأذهان تاريخاً طويلاً من نضال الطلاب الأميركيين.
شهدت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة حراكاً متصاعداً يطالب بوقف عنف الشرطة ضد السود والأقليات، وتمخض عنه حراك "حياة السود مهمة"، ليضاف ذلك إلى تاريخ طويل من التحركات الاجتماعية والطلابية الخاصة بقضايا محلية ودولية، من بينها العنصرية ضد السود والسكان الأصليين، والحرب على فيتنام، ورفض الدعم الأميركي لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وغيرها.
ويرى أستاذ الدراسات الأميركية في جامعة ييل، رودريك فيرغسون، أنه ينبغي وضع الاحتجاجات الطلابية الأميركية الحالية التي بدأت تنتشر في جامعات العالم في سياقها التاريخي الأوسع، ويقول لـ"العربي الجديد": "بوصفي باحثاً في حركات الاحتجاج الطلابية، عندما شاهد احتجاجات طلاب الجامعات الحالية تذكرت على الفور التظاهرات التي شهدتها سنوات الستينيات والسبعينيات، وفي الحركات المناهضة للحرب في فيتنام وغيرها، وحركة الحقوق المدنية، والحركة المناهضة للاستعمار، وحركات التحرر النسوية، وكذا حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي".
ويلفت فيرغسون إلى أن "كل تلك الاحتجاجات تقريباً شهدت محاولات قمع من الشرطة بالتواطؤ مع إدارات الجامعات"، ففي الحراك الحالي تجاوز عدد الطلاب الموقوفين 2200 طالب في مختلف الجامعات، فضلاً عن "توثيق اعتداءات عنيفة على طلاب آخرين، وكانت هناك أمثلة تاريخية صارخة للقمع من بينها حالات قتل في جامعتي كينت وجاكسون، واعتداء الشرطة على طلاب جامعتي كاليفورنيا وبيركلي، وملاحقة عضوة هيئة تدريس جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، أنجيلا ديفيس"، في عام 1969، بطلب من حاكم ولاية كاليفورنيا آنذاك، رونالد ريغان، والتي حاول مجلس أمناء الجامعة إقالتها بحجة عضويتها في الحزب الشيوعي ونشاطها السياسي، لكن احتجاجات أعضاء هيئة التدريس والطلاب حالت دون ذلك، قبل أن تتمكن من الحصول على حكم قضائي يمنع فصلها، لكن مجلس الجامعة تمكن من فصلها في عام 1970، بحجة استخدامها لغة تحريضية.
يشار إلى أنه في الرابع من مايو/أيار 1970، أطلق الحرس الوطني بولاية أوهايو النار على الطلاب المتظاهرين في جامعة كينت ضد حرب فيتنام، وتوسعها لاجتياح كمبوديا تحت إدارة الرئيس نيكسون، وقتل أربعة طلاب، واحدة منهم لم تكن مشتركة في التظاهرة، وتصادف أنها كانت في طريقها إلى صف دراسي، كما جرح تسعة آخرين، وفي 15 مايو من العام نفسه، فتحت شرطة ولاية مسيسيبي النار على الطلاب المتظاهرين في كلية جاكسون، وقتلت شخصين، أحدهما طالب مدرسة كان ماراً بالمصادفة من المنطقة، وجرحت 12 آخرين. على إثر ذلك عمت إضرابات واسعة في الجامعات الأميركية.
ويرى فيرغسون من خلال بحثه لمطالب الحركات الطلابية المختلفة، أنها ترتبط بالحراك المؤيد لحقوق الفلسطينيين بالروح نفسها التي ميزت التحركات السابقة، والتي تشمل الضغط من أجل عالم أكثر عدلاً، ولا يضطر فيه الناس إلى مواجهة عنف الشرطة، أو قمع إدارات الجامعات لتحقيق مطالبهم.
ويشير إلى التأثير الإيجابي لاحتجاجات الستينيات والسبعينيات على الحقل الأكاديمي، قائلاً: "ولدت عدد من الحقول الدراسية بعد الحراك الطلابي، من بينها الدراسات الإثنية، ودراسات المرأة، والدراسات الأميركية، ودراسات السود، والدراسات الآسيوية، ولم يكن الطلاب آنذاك يدعون فقط إلى إنهاء التمييز العنصري والجنسي والطبقي، وتمييز الدولة، بل كانوا يطالبون بإعادة تنظيم المعرفة داخل الجامعات، بحيث يكون هناك نهاية للقمع".
ويوضح أن "بعد دراسة أحداث جامعتي كينت وجاكسون، قررت إدارات الجامعات التشدد، وبدلاً من الدعوة إلى تقليص صلاحيات الشرطة، طلبوا من المجالس التشريعية في الولايات زيادة صلاحيات الشرطة، وإقرار شرطة الحرم الجامعي". ويؤكد فيرغسون على تأثر الحراك الطلابي الحالي بالحركات الطلابية السابقة ونضالاتها، وأن هذا يظهر في العديد من نقاط التشابه، بما فيها الدعوة إلى سحب استثمارات الجامعات الأميركية من شركات الأسلحة والشركات الداعمة للاستيطان، أسوة بما حدث ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. لكنه يلفت في الوقت ذاته إلى بعض الاختلافات، أو الخصوصية في الحراك الحالي الداعم لحركة النضال الفلسطيني، والذي يمكن اعتباره مرحلة جديدة من نضال الطلاب.
ويقول: "الحراك الفلسطيني والتحالفات التي تشكلت حوله وصلت الآن إلى مرحلة النضج، وهذا أمر غير مسبوق من حيث مستوى الاستجابة من الطلاب والناشطين، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في جميع أنحاء العالم. انتشر الخطاب المطالب بالتحرر، والذي كان يقتصر سابقاً على الحركات الداعمة لفلسطين، وحركة مقاطعة إسرائيل، بما في ذلك حديث فئات مختلفة عن إسرائيل بوصفها دولة فصل عنصري، ودولة احتلال، إضافة إلى تمييز كثيرين بين معاداة الصهيونية ومعادة السامية، والتعامل مع الصهيونية بوصفها مشروع دولة وعدم اختزاله في الثقافة اليهودية. أصبحت هذه نقاشات تشغل الرأي العام، ولم تعد مقتصرة على قطاعات صغيرة، وهذا فارق مهم وكبير".
وحول مدى تأثير التحركات الاجتماعية السابقة على الحراك الطلابي خصوصاً، وعلى الرأي العام الأميركي في العموم، يؤكد فيرغسون: "أعتقد أنها لعبت دوراً قوياً، لأن حركة حياة السود مهمة والائتلافات التي بنيت حولها في عام 2020، كانت واحدة من الحركات الكبيرة التي بدأت تربط بين قمع الشرطة داخل أحياء السود وقمع الشرطة والجيش الإسرائيليين للفلسطينيين، وقد قدم نشطاء فلسطينيون نصائح للمتظاهرين في فيرغسون بولاية ميزوري وغيرها حول كيفية التعامل مع استخدام الشرطة للغاز المسيل للدموع، فضلاً عن الرحلات التي قام بها نشطاء من حركة حياة السود مهمة إلى فلسطين واعتبار ذلك جزءاً من التضامن وجمع المعلومات". ويشار هنا إلى وجود تعاون وطيد بين الشرطة الأميركية في عدة ولايات ومدن بما فيها نيويورك، وبين الشرطة الإسرائيلية، سواء في التدريب وتبادل المعلومات، أم في التكتيكات المستخدمة لقمع المتظاهرين.
وحول أهمية التعاون بين حراك السود والفلسطينيين، وتأثيره إلى حد أبعد من النطاق الضيق للتعاون بين النشطاء، يشير فيرغسون على سبيل المثال إلى رسالة وجهها أكثر من 800 قس أميركي أسود إلى الرئيس جو بايدن، يدعونه فيها إلى الضغط من أجل وقف إطلاق النار في غزة، محذرين من أن رعيتهم تشعر بالفزع الشديد من موقفه تجاه ما يحدث في فلسطين.
وكانت شرارة موجة الاحتجاجات الأكاديمية ضد الحرب الأميركية على فيتنام قد انطلقت من جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك، كما هو الحال مع الحراك الطلابي الحالي ضد الحرب على غزة، ومما يثير السخرية أن جامعة كولومبيا تفتخر حالياً بذلك الحراك الذي استمر لوقت أطول، وعطل التدريس، وأدى إلى احتلال عدد من مباني الجامعة، والذي قمعته الشرطة بتواطؤ من إدارة الجامعة.
وفي حين تدعي جامعة كولومبيا أنها تعلمت العبر من احتجاجات رفض الحرب على فيتنام، فإنها تستخدم ضد الحراك الطلابي الحالي أساليب مشابهة لتلك التي استخدمت بالماضي. وحتى قبل بدء الموجة الأخيرة من الاحتجاجات الطلابية، قامت الجامعة بتوقيف عمل روابط طلابية مناهضة للحرب، من بينها "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، و"صوت يهودي من أجل السلام". ويستغرب فيرغسون عدم استخلاص إدارات الجامعات العبر من الاحتجاجات السابقة قائلاً: "إذا عدنا إلى أمثلة جامعتي جاكسون وكينت، وكذلك رد فعل إدارات الجامعات التي استدعت المزيد من قوات الشرطة، فمن المدهش أن الجامعات لم تتوصل حتى الآن إلى أساليب لا تنطوي على قمع الطلاب للتعامل مع الاحتجاجات. صحيح أن الشرطة هي التي تمارس العنف، لكن إدارات الجامعات هي التي تنتج الشروط اللازمة لذلك من خلال استدعاء الشرطة للتعامل مع احتجاجات سلمية داخل حرمها".
وبينما من الصعب معرفة إلى أين سيتجه الحراك، ومدى استمراره ورقعة اتساعه، وما إذا كان الطلاب سيحققون مطالبهم، يؤكد فيرغسون: "سنتذكر هذه الأيام باعتبار أن القيادة الأخلاقية بين مسؤولي الدولة وإدارات الجامعات غابت فيها، وأن طلاب الجامعة هم من سدوا هذه الفجوة، ويشبه هذا إلى حد كبير ما جرى خلال حراك مناهضة الفصل العنصري، وحراك حياة السود مهمة، والحركات المناهضة للحرب في فيتنام".