لم تعد القيود البيروقراطية والتصرفات التعسفية المستمرة تشكل الانتهاكات الوحيدة التي تطاول العاملين في وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة أو تلك الدولية في اليمن، إذ ظهر الخطف وسيلةَ ترهيب جديدة تمارسها الفصائل المسلحة والمليشيات الحاكمة ضد العمل الإنساني بهدف تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. وحالياً، تخشى طواقم الإغاثة الأممية والدولية أن تفسح عمليات الخطف الأخيرة المجال أمام حصول حوادث على امتداد المحافظات، في ظل تردي الأوضاع الأمنية وتحكم الفصائل المسلحة بالمعابر والطرقات.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، اعتقلت السلطات الحوثية اثنين من موظفي الأمم المتحدة في العاصمة صنعاء. وظل مصيرهما مجهولاً لأسابيع، قبل يعلن مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن مارتن غريفيث، في كلمة ألقاها أمام مجلس الأمن الدولي في 15 فبراير/ شباط الجاري، أن السلطات الحوثية سمحت أخيراً لأفراد من عائلتي الموظفين المخطوفَين بزيارتهما.
وفي واقعة أخرى، خطفت مليشيات، مطلع فبراير/ شباط الجاري، 5 موظفين آخرين للمنظمة الدولية أثناء قيامهم بمهمة تقييم الاحتياجات الإنسانية في منطقة الوضيع بمحافظة أبين (جنوب). وكشف مصدر في مكتب الأمم المتحدة بعدن لـ"العربي الجديد" أن "الخاطفين ينتمون إلى جماعة مسلحة مجهولة، ويطالبون بفدية مالية كبيرة، ويضعون شروطاً أخرى بينها مبادلة الموظفين المعتقلين بسجناء لدى سلطات الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات".
أيضاً، اعتقل أحد موظفي الأمم المتحدة في محافظة مأرب (شرق) في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ثم أعلن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إطلاقه لاحقاً.
وتؤكد الأمم المتحدة أن هذه الحوادث "غير مقبولة على الإطلاق"، مشددة على أن "القانون الدولي الإنساني يُلزم كل أطراف النزاع بتسهيل وصول العاملين في المجال الإنساني، وضمان حرية تحركاتهم".
الاستهتار الحوثي
وتصف هيئة الإغاثة في حالات الطوارئ بالأمم المتحدة العمل الإنساني في اليمن بأنه "أصعب مما ينبغي، بسبب القيود الهائلة على عمال الإغاثة، وعدم تسهيل وجودهم وتحركاتهم وأنشطتهم". ويشير مسؤولوها إلى أن "التحديات التي تواجه هذا العمل تشمل أيضاً التأشيرات والإشعارات والعمليات الروتينية الأخرى"، في تلميح ضمني إلى رفض جماعة الحوثيين منح تأشيرات لهبوط طواقم الأمم المتحدة في مطار العاصمة صنعاء، علماً أن الجماعة تتصدر، بحكم سيطرتها على العاصمة التي تضم المقار الرئيسة لكل المنظمات الأممية والدولية، قائمة منتهكي العمل الإنساني، وفقاً لتقارير وتحقيقات أجراها فريق الخبراء الدوليين المعني باليمن.
لكن السلطات الحوثية تملك مبررات جاهزة لتعقيداتها، إذ تمنع إجراء تقييم الاحتياجات في مناطق سيطرتها بحجة أن "وكالات الإغاثة تجمع معلومات استخباراتية". كما تمنع تنفيذ حملات تطعيم الشلل للأطفال بذريعة أن اللقاحات التي يقدمها الغرب تسبب العقم.
وأجريت آخر عملية لتقييم الاحتياجات الإنسانية في اليمن عام 2017، ثم شددت جماعة الحوثيين قبضتها على المساعدات، ومنعت زيارة الفرق التابعة للمنظمات البلدات والأرياف، بهدف السيطرة على السكان الذين يتلقون الإعانات.
وزادت قبضة الحوثيين منذ أن أنشأت ما يسمى بـ"مجلس تنسيق الشؤون الإنسانية"، الذي كلّف بالتفاوض مع منظمات الإغاثة في شأن مشاريع المساعدات وتصاريح السفر الخاصة بالعاملين. وقد رفض هذا المجلس دائماً التوقيع على مذكرات التفاهم التي تمنح المنظمات الأساس القانوني للعمل على الأرض، بحسب ما يفيد مصدر في الأمم المتحدة، ما أدخل السلطات الحوثية في صراع مع عدد من هذه المنظمات، خصوصاً برنامج الأغذية العالمي الذي قلّص أنشطته في صنعاء، وحرم ملايين المتضررين من المعونات.
واللافت أن جماعة الحوثيين تعاملت بنوع من الاستهتار مع تزايد شكاوى الأمم المتحدة من المضايقات. وعلّق أحد قادتها، محمد علي الحوثي، على مزاعم منظمة "هيومن رايتس ووتش" ومنظمات أخرى بشأن تعرضها لعراقيل ميدانية بأنها "مجرد استجابة لأوامر سياسية تصدرها الإدارة الأميركية، ودول تملك أجندات أخرى".
وإلى جانب تدخلها في اختيار المنظمات المحلية الشريكة، تواصل جماعة الحوثيين تقييد حركة موظفي الأمم المتحدة وطرد كبار المسؤولين. ويتحدث مصدر بارز في المنظمة الدولية لـ"العربي الجديد" عن أن "سلطات صنعاء ترفض، منذ أكثر من عام، دخول ممثل الأمم المتحدة لحقوق الإنسان رينو ديتال إلى صنعاء".
ويفيد التقرير، الذي أصدره فريق الخبراء الدوليين المعني باليمن نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، بأن "منظمات الأمم المتحدة تتعرض لحملة إعلامية مستمرة من جماعة الحوثين، لا تشمل أضرارها الأنشطة الإنسانية فقط، بل توجد مخاطر أمنية إضافية".
ويخبر عامل في منظمة دولية بصنعاء، طلب عدم كشف اسمه لأسباب أمنية، "العربي الجديد"، أن "السلطات الحوثية باتت تتدخل حتى في مسألة التوظيف داخل المنظمات، حيث تفرض أسماءً وشخصيات موالية لها. كما أنشأت عشرات من المنظمات المحلية بهدف الاستحواذ على مشاريع المنظمات الدولية، وتنفيذها على الأرض".
ضعف سلطات الجنوب
وفي الجنوب، يواجه العمل الإنساني تعقيدات أيضاً، ولو في شكل أقل من مناطق الحوثيين. وأعلنت الأمم المتحدة اعتقال 5 من موظفيها، وتعرض آخرين لمضايقات من حواجز التفتيش، ونهب جماعة مسلحة في محافظة لحج 3 سيارات تابعة لمنظمات إغاثة.
ويعزو فريق الخبراء الدوليين هذا الأمر إلى ضعف السلطات التابعة للحكومة المعترف بها دولياً، ما سمح للجهات الفاعلة محلياً بفرض شروطها الخاصة، في إشارة ضمنية إلى المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات.
وفيما تحاول الحكومة اليمنية تلافي إشكالات هذا الواقع، التقى رئيس الوزراء معين عبد الملك وفداً إنسانياً أوروبياً يضم ممثلي مكاتب رئيسية للمانحين في 16 فبراير/ شباط الماضي، وناقش معهم آليات تجاوز العقبات التي تواجه العمل الإنساني، مجدداً التزام الحكومة بالشراكة مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
سيناريو مخيف
وعموماً، تنعكس تعقيدات العمل الإنساني في شكل خطر على مستقبل ملايين المتضررين من الحرب. وفي منتصف فبراير/ شباط الجاري، دقت وكالات الإغاثة العاملة في اليمن ناقوس الخطر، وحذرت من أن نقص التمويل يهدد بقطع المساعدات التي تنقذ أرواح ملايين الضعفاء في كل المدن.
وفي الأشهر الأخيرة، تقلصت إلى الثلث فقط برامج رئيسة للمساعدات الخاصة بالأمم المتحدة أو أغلقت. وفي مجال المساعدات الغذائية الضرورية لاحتواء مخاطر المجاعة الوشيكة، كشفت تقارير للأمم المتحدة حصول 5 ملايين، من أصل 13 مليوناً يعانون من انعدام حاد في الأمن الغذائي، على حصص غذائية كاملة، والباقين على حصص منخفضة.
ويتوقع تقرير أعدّه مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن منتصف فبراير/ شباط الجاري، واطلعت عليه "العربي الجديد"، أن ينخفض العدد إلى مليوني شخص في مارس/ آذار المقبل، في حال عدم توفير تمويل عاجل لبرامج الأغذية خلال الأشهر الستة المقبلة.
وعن تقليص مساعدات الغذاء، تقول الأمم المتحدة إنها "قد تضطر في مارس/ آذار المقبل أيضاً إلى إلغاء معظم الرحلات الجوية الإنسانية إلى اليمن، ما قد يتسبب في مشاكل هائلة لعمليات الإغاثة ونقل الموظفين.
ومنذ أن تفشى وباء كورونا، قلصت الدول المانحة مساعداتها في اليمن. ومع بدء العام الحالي، تخشى الأمم المتحدة من "سيناريو مخيف" لعملياتها، باعتبار أن المبلغ المطلوب لتأمين المساعدات يصل إلى 3.9 مليارات دولار، يحتاج برنامج الغذاء العالمي وحده إلى 1.97 مليار دولار منه.
وتبدو طموحات المنظمة الدولية لجمع هذا المبلغ الضخم شبه مستحيلة، خصوصاً أن خطة الاستجابة الإنسانية تلقت، العام الماضي، نحو 58 في المائة فقط من متطلبات التمويل، أي بنقص نحو 1.6 مليار دولار من المبلغ المطلوب. وهي ستراهن على سخاء المانحين في مؤتمر الاستجابة الإنسانية الذي تنظمه حكومتا السويد وسويسرا في 16 مارس/ آذار المقبل، لكن لا مؤشرات لإمكان الحصول على التمويل المطلوب".