الخميس، في الأوّل من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، الساعة الثامنة مساء، في ساحة البيدر في بلدة سبسطية الأثرية، شمال نابلس، شمال الضفة الغربية المحتلة، تجمّع شبان من قرية برقة القريبة للترفيه عن أنفسهم بعد يوم عمل شاق. وكان بعض الزوار يجوبون المنطقة الأثرية مستمتعين بالنسيم العليل والأضواء الكاشفة، لكن هذا المشهد الهادئ لم يدم طويلاً.
انقلب الحال فجأة. اقتحمت آليات تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي المكان من دون سابق إنذار. بدأ جنود الاحتلال بالنزول من مدرعاتهم وكأنهم في ساحة حرب، وأطلقوا الرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيلة للدموع باتجاه المتنزهين. وما أن التفت الشاب أدهم أنور الشاعر (29 عاماً)، لرؤية ما يجري، كانت رصاصة معدنية قد اخترقت عينه اليسرى، وسقط أرضاً وهو ينزف.
لم يفهم رفاق أدهم ما يدور من حولهم، وسط رائحة الغاز المسيل للدموع التي كادت تخنق الموجودين. ركضوا إلى أدهم وحملوه إلى سيارة لنقله إلى أقرب مركز صحي، من دون أن يصدقوا كيف انقلبت أصوات ضحكاتهم إلى صراخ فجأة.
ولم تفلح جهود الأطباء في مستشفى رفيديا الجراحي الحكومي في مدينة نابلس في إنقاذ عين أدهم التي أصيبت بشكل مباشر، واضطروا إلى استئصالها، تماماً كما جرى مع المصور الصحافي معاذ عمارنة، الذي فقد عينه أيضاً قبل نحو عام وهو يوثق الاعتداءات الإسرائيلية في الخليل، جنوب الضفة الغربية.
يرقد الشاعر في مستشفى "النجاح" الوطني في نابلس، بعدما خضع لعملية جراحية ثانية لإزالة ما بقي من شظايا الرصاصة، وتنظيف محجر العين وترميم الجفن. يقول: "دقيقة واحدة فصلت بين الهدوء والرصاص والدماء. هذه اللحظة تعد الأصعب في حياتي، دفعت ثمنها عيني من دون ذنب، بل نتيجة تعطش جنود الاحتلال للقتل والإجرام".
وعلى الرغم مما جرى معه، إلا أن أدهم يتمتّع بروح معنوية عالية، مؤكداً أنه راضٍ بقضاء الله وقدره، ويكرر هذا الحديث أمام زواره على الدوام. منذ وقوع الحادثة، يشعر أدهم بصداع مستمر، أفقده القدرة على النوم إلا لدقائق. ما أن يغفو، حتى يصحو من شدة الألم، على الرغم من تناوله المهدئات. مكان الإصابة حساس جداً. "لولا لطف الله، لفقدت روحي أيضاً".
لم يستطع أدهم مواصلة حديثه، فتابع شقيقه أيهم، الذي أوضح أن شقيقه أسير محرر اعتقل عام 2017 وأمضى عاماً كاملاً في سجون الاحتلال، وهو يعمل حالياً في كافيتيريا. وقد اعتاد، أسوة بمعظم الشباب، على استغلال عطلة نهاية الأسبوع للتنزه والابتعاد عن مشاغل الحياة اليومية.
ويطالب أيهم بضرورة إجراء تحقيق في هذه الجريمة، قائلاً: "طامة كبرى أن تمضي هذه الحادثة من دون أن نتوقف عندها ملياً، ومن دون أن نعلي أصواتنا في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية. هل الإنسان رخيص إلى هذا الحد؟ هل يستسهل جنود الاحتلال إطلاق الرصاص وكأنهم في حفلة أو نزهة، فيقتلون ويصيبون الأبرياء العزل؟ لا يمكن أن نصمت أبداً".
يعاتب أيهم الجهات الرسمية الفلسطينية التي لم تتواصل مع العائلة نهائياً، على حد قوله. يتابع: "ليست لدينا تجربة سابقة مع أحداث مماثلة. لذلك، كنّا نتوقع من السلطة الفلسطينية أو الأشخاص المكلفين بمتابعة اعتداءات الاحتلال أن يتواصلوا معنا، لكن ذلك لم يحدث".
يضيف: "يرقد شقيقي أدهم حالياً في مستشفى النجاح لاستكمال العلاج وتهيئته لزراعة عدسة تجميلية مكان عينه التي فقدها. لذلك، نطالب وزارة الصحة والحكومة الفلسطينية بمتابعة الملف الطبي لشقيقي. دخل المستشفى على ضمانة أحد قادة حركة فتح، وليس بناءً على طلب أو أوراق رسمية من الحكومة".
ويروي أيهم ما دار بين شقيقه ووالدته قبل دخوله غرفة العمليات. يقول: "كان أدهم يتألم بشكل غير مسبوق. أمسك بيد والدتي وقال لها: أتيت إليك أسيراً، واليوم جريحاً، وبقيت الثالثة... فصمت ولم يُكمل". فردت عليه أمي: "احكيها يمّا، شهيداً". تابعت: "على كل فلسطيني عندما يخرج من بيته أن يتوقع العودة إليه شهيداً في ظل وجود الاحتلال الذي لا يرحم".
إرهاب الاحتلال
باتت سبسطية منذ سنوات عدة هدفاً لاقتحامات الاحتلال والمستوطنين المتكررة، بدعوى وجود آثار يهودية في المنطقة، وهم يبذلون مساعي كثيرة للسيطرة على الموقع وتهويده. ويقول رئيس بلدية سبسطية محمد عازم إن بلدة سبسطية تتعرض بشكل شبه يومي وعلى مدار الساعة لاقتحامات الاحتلال والمستوطنين، وبات هذا المشهد مألوفاً. وتزداد الاقتحامات كلّما اقتربت الأعياد اليهودية، ويأتي المستوطنون للاحتفال في سبسطية.
ويوضح عازم أنه بعد تهيئة المركز التاريخي المعروف بساحة "البيدر"، وتوفير كل الخدمات للحركة السياحية المحلية والدولية، بدأ الموقع يشهد حركة نشطة، خصوصاً في نهاية الأسبوع، ويأتيه المتنزهون من كل المحافظات. ويؤكّد عازم أن الموقع كان يعج بمئات الأسر الفلسطينية من مختلف المحافظات، وضمنها نساء وأطفال وكبار في السن وشباب، وهو ما لا يروق للاحتلال.
وبدأت بلدية سبسطية عام 2019 تنفيذ مشروع لإعادة إحياء المركز التاريخي، وهو واحد من مجموعة مشاريع تدعمها الحكومة البلجيكية عبر لجنة وزارية فلسطينية بإشراف عام من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو".