تشكل الألغام الأرضية التي زرعتها قوات النظام السوري في مناطق مختلفة من البلاد، وتلك التي نثرها مقاتلو تنظيم "داعش" الإرهابي و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، خطراً يهدد حياة السكان. ويشمل الخطر أيضاً أولئك الذين يقيمون في محافظات شهدت عمليات عسكرية نفذها النظام بدعم روسي، وخلّفت بقايا حرب غير منفجرة، مثل درعا في الجنوب، وريف دمشق، وحمص، وأرياف حماة التي نشط فيها تنظيم "داعش" أيضاً، وزرع ألغاماً في أماكن مختلفة فيها، خصوصاً أريافها الشرقية، مثل منطقة السلمية. أيضاً، يواجه سكان محافظة الرقة (شمال)، وتحديداً مدينتها، تهديدات كبيرة ودائمة من كميات كبيرة من الألغام تركها تنظيم "داعش"، والتي يحتاج التخلص منها سنوات من العمل الدؤوب.
يعتبر زبير الرملة من بين ضحايا الألغام، التي أصابت المئات في مدينة الرقة، وقتلت كثيرين منهم وتسببت في عاهات دائمة لمن بقوا على قيد الحياة، ما حتم عيشهم في ظل صعوبات كبيرة وغير عادية، وبينها تأمين العلاج في مرحلة أولى، ثم الحصول على طرف صناعي للاندماج في الحياة مجدداً، والعمل من أجل توفير لقمة العيش.
وعود لا تتحقق
يوضح زبير لـ"العربي الجديد" أنه أصيب لدى وجوده مع شقيقه الطبيب زواد على باب منزله في مدينة الرقة. ويذكر أن الحياة كانت بالغة الصعوبة بالنسبة إليه بعد الإصابة، خصوصاً أنه بقي طريح الفراش نحو عامين، من دون أن يمد أحد يد المساعدة له، في مقابل تلقيه كمّاً من الوعود التي لم يتحقق أي منها.
ويقول: "وعدتني عدة منظمات بالحصول على أطراف اصطناعية، وأبلغتني بوجودها، فأمضيت عامين ونصف العام أنتظر في الفراش، ثم فقدت الأمل في نهاية الأمر، واستدنت المال وتعالجت مع شقيقي. ركبت طرفين اصطناعيين سفليين، وركب شقيقي طرفاً واحداً. وبلغت تكلفة كل طرف 4500 دولار، دفعنا ثمنها من جيبنا. وكنت أصبت عام 2017، وركبت الطرفين في نهاية عام 2019، وقد تضررت كثيراً من العمليات الجراحية التي خضعت لها، علماً أن أطباء في حلب قالوا لي إن أحد أطرافي المبتورة كان يمكن إنقاذه، لكنني خسرته".
بدوره، يقول زواد لـ"العربي الجديد" إن "مئات أصيبوا بألغام في الرقة، منهم أطفال لم تعالجهم المراكز الموجودة. وحالياً تنشط منظمات، لكنها لا تقدم أطراف السيليكون ذات الفعّالية الكبيرة بالنسبة لي ولبعض المصابين. وقد تعالجت في مستشفيات خاصة بدمشق".
مناطق "قسد"
وفيما سجل انتشار واسع للألغام والعبوات الناسفة في مناطق سبق أن سيطرت عليها "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، والتي ما زالت تشكل تهديداً كبيراً خصوصاً في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري (التابع لتركيا) غربي محافظة الحسكة، إضافة إلى ريف الرقة الشمالي وتحديداً في منطقة تل أبيض، يروي أحد المصابين ويدعى مهنا المحمد الذي يعمل في مجال الإغاثة، لـ"العربي الجديد"، أنه أصيب حين كان مع رفيق له على متن دراجة نارية عام 2020، وأنه لازم المستشفى شهوراً بعدما فقد ساقه.
ويقول: "تجولت مع صديق كما جرت العادة في المنطقة بعد سيطرة الجيش الوطني عليها، فانفجر شيء لم نشاهده في الأصل، ثم أخبرني شخص كان في موقع بعيد أنه لغم أرضي أو عبوة ناسفة. وقد توفي صديقي فوراً، في حين نقلت من موقع الانفجار لتلقي العلاج. لم أفقد وعيي حتى وصلت إلى مستشفى بالأراضي التركية وليس في منطقتي حيث لا يتوفر أي مكان لعلاجي، واستيقظت بعد أيام، ووجدت أن ساقي مبتورة، وأن بطني وصدري تحولا إلى خريطة بسبب العمليات الجراحية. كان وضعي حرجاً وسيئاً للغاية، إذ أصبت في الرئتين والأمعاء، وبقيت شظايا عالقة في جسدي، واستقر بعضها في الفخذ".
يضيف: "أجريت عملية جراحية هذا العام أيضاً، وأنا حالياً ما زلت أتعافى. أجد أن زرع الألغام جريمة كبيرة لا تغتفر، فاللغم لا يميز بين طفل بريء أو عسكري، وإذا لم يتسبب في الوفاة، فهو يجعل المصاب في عذاب حتى آخر العمر. الألغام أخطر سلاح يمكن أن يستخدم، وأي طرف في سورية يتورط في زرعها يشارك في الإجرام والقتل بلا تمييز".
أرقام
وكان تقرير مشترك أصدره التحالف الدولي للقضاء على الذخائر العنقودية الذي يدعم جهود تنفيذ اتفاق حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدميرها وفق معاهدة أوتاوا 1997، بالتنسيق مع الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية، خلص إلى تسجيل سورية الحصيلة الأعلى لضحايا الألغام في العالم عام 2021 برقم 2729 بين قتلى وجرحى، وذلك من أصل 7073 قتلوا أو جرحوا في أنحاء العالم حينها. وأشار التقرير أيضاً إلى أن 80 بالمائة من ضحايا الألغام مدنيون، و50 في المائة منهم على الأقل أطفال، وذلك بزيادة 20 في المائة عن عام 2019.
وأفادت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير أصدرته في إبريل/ نيسان 2022، بأن 2829 مدنياً على الأقل بينهم 699 طفلاً و294 سيدة بالغة، و8 من الكوادر الطبية، و6 من كوادر الدفاع المدني، و9 من الكوادر الإعلامية، قتلوا في مئات من حوادث انفجار الألغام في مختلف المحافظات السورية.
وأظهر تحليل للبيانات أنَّ نحو نصف ضحايا الألغام الأرضية قتلوا في محافظتي حلب والرقة، بنسبة 49 بالمائة من إجمالي العدد، ثم محافظة دير الزور بنحو 17 بالمائة. كما نشر رسوماً بيانية لتوزع حصيلة الضحايا بسبب الألغام تبعاً للسنوات منذ مارس/ آذار 2011. وكشف المؤشر التراكمي أنَّ نحو ثلث الضحايا جرى توثيق مقتلهم عام 2017.
وأظهر تقرير أصدره المرصد السوري لحقوق الإنسان أنّ 132 شخصاً قُتلوا، بينهم 10 نساء و59 طفلاً، من جرّاء مخلفات الحرب منذ مطلع يناير/ كانون الثاني 2022. وتحدث عن أن الجهود المبذولة للحدّ من انتشار الألغام ومخلفات الحرب ما زالت ضعيفة جداً في كافة المناطق السورية، باستثناء مناطق الشمال الغربي التي تنشط فيها فرق الدفاع المدني السوري، وتعمل بشكل مستمر لنزع الألغام وإزالة مخلفات الحرب التي تهدد بالدرجة الأولى الأطفال في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة السورية.
ووفق بيانات دائرة الأمم المتحدة المتعلقة بالألغام، قُتل وجُرح نحو 15 ألف شخص بسبب المتفجرات في سورية. ويوضح رئيس الدائرة في سورية هابيل هاك جافيد أنّ "الرقم ضخم".
الدفاع المدني السوري
من جهته، يقول منسق برنامج الذخائر غير المنفجرة في الدفاع المدني السوري محمد سامي المحمد، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الألغام الأرضية من أكثر الأخطار التي تنتج عن الحروب، وضررها قد يمتدّ لعشرات السنين. وهي تتطلّب بذل جهود جماعية ووطنية لإنجاز عمليات حصر أماكن الألغام وتنفيذ عمليات إزالتها". ويشير ذلك إلى مدى خطورة عدم إزالة هذه الذخائر والألغام، والحاجة الماسة إلى جهات داعمة في المجال.
وتدرب فرق برنامج الذخائر غير المنفجرة التابعة للدفاع المدني السوري متطوعين ومتطوعات على عمليات نزع الألغام والذخائر غير المنفجرة في مناطق عملها، من أجل الحد من مخاطرها على السكان، وفي مقدمهم المزارعون الذين يقصدون أراضيهم برفقة أطفالهم، وهم يجهلون ماهية الأجسام التي قد يعثرون عليها، والتي قد تكون غير منفجرة وتتسبب في مقتلهم. ويوصي الفريق السكان بعدم الاقتراب من الأجسام المشبوهة، والتبليغ عنها لتنفيذ تدابير التخلص منها.
ويؤكد المحمد عدم إمكان التقليل من خطورة أيّ نوع من أنواع الذخائر غير المنفجرة، لكنّ "القنابل العنقودية تمثل الخطر الأكبر، بسبب استخدامها الكثيف من قبل النظام السوري وروسيا، وانخفاض نسبة انفجارها الفوري بعد وصولها إلى الأرض مقارنة بباقي أنواع الذخائر، وانتشارها الواسع بسبب طبيعة انفجار الحواضن التي تلقيها الطائرات أو التي تحملها الصواريخ".
ويكشف أن فرق الدفاع المدني السوري "وثّقت استخدام قوات النظام وروسيا 11 نوعاً من القنابل العنقودية في قصفها السوريين. ولا هدف محدداً للذخائر العنقودية، فهي تُنشر بشكل عشوائي في مناطق واسعة، وقد تصل نسبة القنابل التي لا تنفجر مباشرة بعد ارتطامها بالأرض إلى نحو 40 في المائة، الأمر الذي يؤدّي إلى نتائج مدمّرة لأيّ شخص قد يصادفها لاحقاً".