قبل نحو عشرة شهور، وصل مئات الأفغان إلى الدنمارك وقد أُجلوا من بلادهم مع إمساك حركة طالبان بمفاصل الحكم. لكنّ النظام الخاص باللجوء في كوبنهاغن أتى تمييزياً بحقّ هؤلاء، الأمر الذي استفادت منه واشنطن.
"يقولون لك: ليس مرحّباً بك في هذا البلد"، في إشارة إلى الدنمارك. هذا ما يقوله مترجم أفغاني عمل سابقاً لمصلحة الدنماركيين في أفغانستان قبل أن تسيطر حركة طالبان على السلطة في أغسطس/ آب 2021 ويُصار إلى إجلاء هذا المترجم ونحو ألف أفغاني آخرين ممّن تعاونوا مع كوبنهاغن أو غيرها في عواصم الغرب. ويحمل كثيرون من هؤلاء الذي أُجلوا مؤهلات علمية، ويتحدّث عدد منهم أكثر من لغة، وعلى الرغم من ذلك صُنّفوا بحسب سياسة الهجرة الدنماركية المتشدّدة "مقيمين بصفة مؤقتة".
ووسط الإحباط الذي أصاب كثيرين من هؤلاء منذ وصولهم إلى الدنمارك، ووسط غياب الشعور بالاستقرار المستقبلي، لا سيّما لعائلاتهم، والمعاملة التمييزية التي استهدفتهم بحسب ما أفادوا، فقد سعى عدد منهم إلى الهجرة من جديد ومغادرة هذه البلاد. وأخيراً، باتت الولايات المتحدة الأميركية تمثّل بارقة أمل لهؤلاء، إذ تقدّم لهم إقامة دائمة وحرية التنقّل والسكن، مستفيدة من كفاءاتهم، بخلاف حالة العزلة التي يعيشونها في الدنمارك.
وتواصل السفارة الأميركية لدى كوبنهاغن، بعد وصول موظفين حكوميين من واشنطن بداية شهر يونيو/ حزيران الجاري، العمل على إنهاء المعاملات الخاصة بالأفغان ممّن يرغبون في السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية. وحتى تاريخ كتابة هذا التقرير، شملت الموافقة نحو 200 شخص من بين نحو 900 وجدوا أنفسهم على الأراضي الدنماركية بعد الانسحاب الكبير الأميركي والغربي من أفغانستان في أغسطس الماضي، وسط قوانين لا تمنحهم الأمان ولا الاستقرار المستقبليَّين. يُذكر أنّ هؤلاء الأفغان وبمجرّد وصولهم إلى واشنطن، سوف ينتقلون إلى الولاية التي يرغبون فيها، حيث يقيم أقارب أو معارف لهم.
وبعد مضيّ نحو 10 شهور على الإجلاء، ما زال اللاجئون الأفغان يعيشون ظروفاً صعبة في الدنمارك تنتفي فيها أيّ ضمانات للمستقبل. وبخلاف بعض الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية والسويد وأستراليا، يقيم الأفغان الذين قصدوا الدنمارك في مخيمات لجوء، ويعانون من التشديد المنتهج في هذه البلاد بشأن الهجرة واللجوء. يُذكر أنّه حتى إقامة هؤلاء المتعاونين مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) والدنمارك نفسها، عُدّت "مؤقتة" لمدّة عامين، وكان من الصعب على كثيرين الشعور بأنّهم باتوا في أمان أو يستطيعون تأمين مستقبل صغارهم في البلد الذي وصفه البعض بأنّ "جيّد للدنماركيين، لكنّه ليس للاجئين والمهاجرين".
تمييز في المعاملة
إنّ وصول اللاجئين الأوكرانيين إلى الدنمارك والترحاب الكبير الذي قوبلوا به عزّزا توجّس الأفغان وغيرهم من اللاجئين من غير الأوروبيين. وبخلاف حالة الانتظار التي عاشها الأفغان، فُتحت أسواق العمل أمام الأوكرانيين الهاربين من الحرب الروسية الأوكرانية القائمة منذ فبراير/ شباط 2022، وذلك من دون اشتراط إجادة اللغة الدنماركية التي يواجهها من يريد الخروج من مخيمات اللجوء والانخراط في المجتمع.
ويبدو أنّ كوبنهاغن المتشدّدة منذ 2015 في ما يخصّ اللجوء والهجرة تدفع كثيرين اليوم إلى البحث عن "خلاص" في خارجها، خصوصاً الفئات التي تعيش من دون أفق استقرار. وبصورة متأخّرة عن غيرها من الدول الغربية، تبّنت الدنمارك سياسة منح الذين أُجلوا من أفغانستان "حماية مؤقتة"، بحسب ما أقرّ برلمانها في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
وقد أُبلغ الأفغان، عند طرحهم سؤالاً عن مصيرهم بعد انقضاء الإقامة المؤقتة لمدّة عامَين، بأنّه سوف يُعاد النظر في أوضاعهم، "وفي حال تحسّن الوضع في أفغانستان فإنّها سوف تُعَدّ آمنة لترحيلهم إليها". وهذا يعني تماماً مواجهة ما يواجهه السوريون الآتون من دمشق وريفها الذين يُقدَّرون بأكثر من أربعة آلاف، والذين انتهجت معهم كوبنهاغن سياسة متشدّدة، إذ نزعت عن بعضهم الإقامة وأُحيل بعض آخر منهم إلى مخيّمات ترحيل بعد تجميد إقامتهم.
وعلى الرغم من الكلمات المعسولة التي تفوّه بها وزير الهجرة والدمج الدنماركي السابق ماتياس تيسفاي قائلاً إنّه "حان وقت ردّ الجميل للأفغان الذين أُجلوا وقد ساعدوا (من قبل) الجنود الدنماركيين والدبلوماسيين والمنظمات غير الحكومية، "، فقد بدا وضع أكثر من 900 شخص (بين كبير وصغير) مهدّداً وسط التشدّد ونمطية النظرة الدنماركية إلى اللاجئين بحسب البلد الأصلي، علماً أنّ ذلك تعزّز مع استقبال الأوكرانيين منذ فبراير الماضي.
تجدر الإشارة إلى أنّه من بين الأفغان الذين بقوا في مخيّمات لجوء ينتظرون الانتقال إلى سكن ومباشرة حياة طبيعية، أشخاصاً مع مؤهلات علمية، وثمّة من يملك خبرات عمل في مصارف ومؤسسات حكومية ودبلوماسية. وفي وقت تحتاج فيه الدنمارك إلى يد عاملة وتبحث عنها في دول أخرى، لم يؤطّر هؤلاء في سوق العمل، كذلك لم تُحقّق رغبات بعض حاملي الشهادات الجامعية في مواصلة دراستهم.
وفي هذا الإطار، يقول الأفغاني الثلاثيني فيرهاد إنّه حلم بـ"استكمال دراسة الهندسة، فأنا أحمل شهادة بكالوريوس. لكنّي اصطدمت بحائط مسدود وبيروقراطي جداً في الدنمارك". ويتحدّث فيرهاد وزوجته الإنكليزية بطلاقة، إلى جانب بعض من العربية، وهو عمل في أفغانستان مع قوات الناتو. ويشدّد لـ"العربي الجديد" من أحد الفنادق التي جمعتهم فيها (من بين نحو 200 شخص) السفارة الأميركية، أنّ زوجته "مصرفية وقد عملت في كابول في أكبر المصارف. وعلى الرغم من أنّنا نحمل شهادات جامعية ونتحدّث اللغات، فقد بقينا أمام مخرج واحد وواضح المقصد ألا وهو العمل في شركات تنظيف". وفيرهاد ليس وحده من يشعر بـ"أسف لأنّ الدنمارك تعيش في شرنقةِ نمطية النظرة إلى المسلمين، بقوانين لا تصلح للقرن الجديد"، وبالتالي فإنّ خيار الانتقال إلى الولايات المتحدة الأميركية "أفضل بكثير لنا (هو وزوجته) وللصغيرَين (طفلاهما دون الرابعة)".
"غير مرحّب بنا"
من جهته، يشرح مترجم أفغاني أربعيني يُدعى خالد سبب اختياره السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية بالقول: "صحيح أنّ النظام الاجتماعي جيّد في الدنمارك، خصوصاً في ما يتعلق بالرفاهية والرعاية وشبكة الأمان، لكنّك لا تستطيع العيش على الهامش. هم (الدنماركيون) يطبّقون سياسة تعجيزية لتنفير الناس بهدف مغادرتها". ويصرّ خالد في حديثه إلى "العربي الجديد" على أنّه "يصعب عليك رؤية مستقبل لعائلتك في بلد ينتهج قوانين تهدف إلى تهميش فئات فيها على أساس الأصل العرقي". وعلى الرغم من أنّه عمل مترجماً للدنماركيين في بلاده، يرى أنّ ما جرى له ولمئات الأفغان "درس عملي عن مدى انغلاق النظام الدنماركي".
ومن بين هؤلاء الأفغان ثمّة شباب تتراوح أعمارهم ما بين 19 و25 عاماً عدّوا أنفسهم "محظوظين" لأنّهم كانوا من بين المؤهّلين للانتقال إلى الولايات المتحدة الأميركية، بسبب وجود أقارب لهم هناك. وهؤلاء عاشوا كذلك أشهراً في "انتظار المجهول"، ويحكي بعضهم عن رغبة في العمل والدراسة، فيما عدم الاستقرار والعيش في مخيّمات لجوء يعوّق أحلامهم.
حتى وإن كان قانون اللجوء الخاص بالأفغان الواصلين بعد الانسحاب الأميركي من بلادهم، يسمح نظرياً لهم العمل والدراسة، فإنّ هاجس تعلّم اللغة من دون احتكاك بالمجتمع مع توزيعهم في مخيّمات نائية والخشية من أن تتحوّل بلادهم إلى "مناطق آمنة" (على طريقة دمشق وريفها) في العام المقبل، وغيرها من قضايا متعلقة بأوضاعهم في "دائرة الأجانب" المسؤولة عن أوضاع اللاجئين والمهاجرين والتابعة لوزارة الهجرة، تعوّق كلّها عملياً استفادة الدنمارك من هؤلاء الذين استفاد الغرب من خدماتهم في أفغانستان نفسها.
استفادة واشنطن
وفي كلّ الأحوال، يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركية انتبهت إلى وجود كفاءات ومؤهلات بين الأفغان الذين أُجلوا من بلادهم، لذا أجرت سفارتها لدى كوبنهاغن مقابلات مع عدد منهم بمشاركة موظفين من واشنطن. والنتيجة أنّ نحو 200 منهم عُدّوا دفعة أولى ونُقلوا مع حقائبهم إلى فندق في وسط العاصمة الدنماركية على حساب السفارة الأميركية، بعد إبلاغهم بأنّهم حصلوا على "إقامة دائمة". وسوف تتكفّل السلطات الأميركية المعنية بتكاليف نقلهم بطائرة خاصة وبشكل جماعي.
ومنذ مايو/ أيار الماضي، كانت السلطات الدنماركية على علم بمساعي حليفتها الأميركية "سحب" مئات المؤهلين الأفغان إليها، ومن المتوقع أن تواصل السفارة الأميركية إجراء مقابلات مع مئات آخرين من هؤلاء البالغ عددهم الإجمالي نحو 900، لاكتشاف المؤهلين والراغبين في ذلك. بالنسبة إلى فيرهاد وأسرته فإنّ ذلك "يشير بوضوح إلى فارق بين الفهم الأميركي للاستفادة من مؤهلات مهاجرين والانغلاق الدنماركي خلف قوانين متشدّدة ونظرة نمطية". ويقول: "على الأقلّ لديك وثيقة مكتوبة من الحكومة الأميركية تخبرك بالتفصيل بأنّك حاصل على إقامة دائمة، وبأنّك سوف تقيم في الأيام الأولى من وصولك إلى واشنطن في أحد المراكز لإجراء فحوص وإنهاء معاملاتك، لتكون بعدها حرّاً في الانتقال إلى الولاية التي تريدها وفي العمل والدراسة، وبالتالي في الحصول على فرص مواطني البلاد ذاتها".
تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة مسؤولين دنماركيين يُظهرون بوضوح للأفغان بأنّه ليس مرحّباً بهم في البلد، بحسب ما يقول بعضاً من هؤلاء، لم يعقّبوا على ما تقوم به واشنطن. وعندما سألت "العربي الجديد" وزارة الهجرة عن رأيها في ما يجري، أفاد المعنيون بأنّها لا تملك سوى تعقيب مكتوب لوزير الهجرة والدمج الجديد (بعد تغيير وزاري الشهر الماضي) كورا دوبفاد بيك، وهو "حظاً موفّقاً لهؤلاء الأفغان الذين اختاروا الرحيل عن الدنمارك".
بالنسبة إلى الباحث في قضايا الهجرة واللجوء مورتن فيسترغورد، فإنّ "هجرة الأفغان الذين ساعدوا الدنمارك تشكّل فضيحة وإعادة تذكير بأنّنا لسنا بخير، على الرغم من كلّ التصريحات السابقة عن ضرورة احتضانهم ومساعدتهم". ويشدّد فيسترغورد لـ"العربي الجديد" على أنّ "الأميركيين في صدد القيام بمزيد من قشط الكفاءات، فيما يغرق سياسيّونا في هراء نظريات استحالة دمج الوافدين من خارج أوروبا. ومن المفترض أن يضعنا هذا التطوّر أمام حقيقة مزعجة" أشار إليها أفغان قالوا إنّهم غير مرحّب بهم في الدنمارك.