أدوية لبنان... علاجات متعثرة ومحكومة بالاعتمادات المالية

30 ديسمبر 2021
لم تعد للوصفات الطبية أهميّة وسط فقدان الأدوية (حسام شبارو/ الأناضول)
+ الخط -

لا تطاول أزمة الدواء في لبنان فقط هؤلاء المصابين بأمراض مزمنة باختلافها، وإنّما أشخاصاً يجدون أنفسهم في أوضاع تحتّم علاجات بحدّ ذاتها، فيما عدم توفّرها يؤدّي إلى ما لا يُحمد عقباه. وفي هذا الإطار، أثيرت في مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري قضية حالة إجهاض في شهرها الرابع، نتيجة عدم تمكّن المرأة الحامل من الحصول على حقن خاصة بسيلان الدم بانتظام، لا سيّما أنّها تعاني من مخاطر تخثّر الدم. والحقن التي تؤكّد وزارة الصحة العامة في لبنان توفّر بديلٍ عنها في مركز توزيع أدوية الأمراض المستعصية في محلة الكرنتينا بالعاصمة بيروت، يشكّك أطباء في دقّة هذه المعلومات إذ لم يتمكّنوا من الحصول عليها لدى اضطرارهم إلى استخدامها. وفي وقت يلجأ فيه بعض اللبنانيين إلى تأمين أدويتهم من الخارج، تبقى الغالبية عرضة إلى مخاطر جمّة. بالتالي، أدّى التدهور الحاصل إلى عدم تلقّي مرضى كُثر علاجها المناسب في الوقت المناسب، خصوصاً أنّ فقدان أدوية أساسيّة عديدة مستمرّ منذ أشهر طويلة، إلى جانب تداعيات رفع الدعم عن معظم الأدوية، وفقدان البدائل كذلك. وإذ تغيب الإحصاءات الرسمية حول عدد النساء المهدّدات على صعيد الصحة الإنجابية والنسائية، تبرز قصص عذابات يوميّة للمواطنين تروي حجم المأساة والمعاناة التي تطاول الجميع دون استثناء.

صحة
التحديثات الحية

لا الدواء ولا البديل متوفّران
وبالعودة إلى قضية حالة الإجهاض المشار إليها آنفاً، فقد أثارها الطبيب المتخصص في الطب العائلي محمد علي الجردلي في تغريدة له عبر حسابه على موقع "تويتر". ويوضح الجردلي لـ"العربي الجديد" أنّ المرأة التي تعرّضت إلى الإجهاض سبق لها أن أنجبت وهي "كانت تحصل على الحقن المطلوبة في خلال فترات حملها السابقة، لكنّها لم تتمكّن من العثور عليها هذه المرّة، وهذا هو السبب الرئيسي لخسارة جنينها". يضيف الجردلي: "أبلغتني وزارة الصحة العامة بعد التغريدة التي نشرتها، أنّ البديل عن حقن السيلان تلك متوفّر في مركز الكرنتينا في العاصمة، لكنّ أحد أصدقائي وهو طبيب وزوجته وهي طبيبة كذلك لم يجدا البديل فاضطرّا إلى إحضار الحقن من مصر". ويتابع الجردلي أنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو "لمَ لا يتوفّر بديل في كلّ مراكز الرعاية الصحية الأولية في كلّ محافظات لبنان وأقضيته؟ كيف لأبناء المناطق البعيدة أن يقصدوا بيروت للحصول عليه؟ وهل كان هذا البديل متوفّراً قبل ستة أشهر؟".
ويكمل الجردلي أنّ "مرضى كثيرين أبلغوني بأنّهم لم يعثروا على الحقن الخاصة بسيلان الدم، وهي حقن أساسيّة تُستخدم في علاج حالات عديدة، من بينها تخثّر الدم والأمراض السرطانية بالإضافة إلى استخدامها بعد العمليات الجراحية. أمّا حقن تثبيت الحمل، فقد بات سعر كلّ 10 حقن 500 ألف ليرة لبنانية (نحو 330 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف الرسمي غير المعمول به ونحو 19 دولاراً أميركيّاً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية)، وذلك بعد رفع الدعم عن الدواء. وهذا مبلغ يقارب المدخول الشهري لعدد من العائلات، علماً أنّ ثمّة نساء في حاجة إلى هذه الحقن طيلة أشهر حملهنّ التسعة وبمعدّل يومي".

تحرك تضامني مع مرضى السرطان في لبنان (حسام شبارو/ الأناضول)
تحرّك تضامني سابق مع مرضى السرطان المحرومين من أدويتهم (حسام شبارو/ الأناضول)

الصحة الإنجابية للمقتدرات فقط
والجردلي الذي يعاين في العاصمة بيروت وفي مدينة صيدا جنوبي لبنان، يواجه يوميّاً حالات كثيرة شائكة، ويأسف كيف أنّ التمتّع بالصحة النسائية والإنجابية بات محصوراً بفئة من المجتمع اللبناني. ويشير إلى أنّ "حبوب منع الحمل مثلاً شبه مفقودة منذ نحو ستة أشهر في لبنان، وكان من المستحيل العثور عليها على مدى أربعة أشهر تقريباً. أمّا حالياً فمن الممكن تأمينها، لكن لا يمكن شراؤها نظراً إلى ارتفاع أسعارها. فسعر العلبة الواحدة يُقدّر بنحو 200 ألف ليرة (نحو 130 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي ونحو سبعة دولارات أميركية بحسب السوق الموازية)، بعدما كان 15 ألف ليرة (نحو 10 دولارات بحسب سعر الصرف الرسمي ونحو نصف دولار بحسب السوق الموازية). ويتوجّب على المرأة أن تواظب على هذا الدواء شهرياً في حين أنّه لا يتوفّر بشكل دائم في مراكز الرعاية الصحية الأولية التابعة لوزارة الصحة العامة".
ويسأل الجردلي: "هل يجوز أن تكون المرأة في زمننا هذا عاجزة عن تحديد النسل وتنظيم أسرتها؟ يأتي هذا في حين أنّ الإجهاض ممنوع بحسب القانون اللبناني. أمّا الحبوب المستخدمة للإجهاض فهي صعبة المنال ولا يصفها كلّ الأطباء. يُذكر أنّ ثمّة من يحصل على الدواء من خارج لبنان وبالعملة الصعبة، وهو أمر لا قدرة لكثيرات عليه". يضيف الجردلي أنّه "في حال كان الحمل غير المرغوب فيه بمرحلة متقدّمة، يتمّ الإجهاض بعملية جراحية. لكنّ الأطباء يطلبون لقاء ذلك نحو 500 دولار. فكيف لامرأة أصبحت حاملاً كونها لا تملك ثمن حبوب منع الحمل أو لعدم عثورها عليها، أن يكون بحوزتها مبلغ 500 دولار؟ يُذكر أنّ ثمّة أطباء يتقاضون بدل العملية نحو 100 أو 200 دولار، في حين يجريها بعض آخر في عيادات تفتقر إلى أدنى معايير الصحة والنظافة والتعقيم وفي ظروفٍ يُرثى لها، الأمر الذي يعرّض النساء إلى مخاطر صحية عديدة". ويلفت الجردلي إلى عجز أغلب النساء عن تركيب اللولب الرحمي كوسيلة منع حمل، شارحاً أنّ "ثمّة نوعَين من اللوالب، والنوعية الجيّدة يقارب سعرها مليونَين و800 ألف ليرة (نحو 1860 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي ونحو 104 دولارات بحسب السوق السوداء)، إلى جانب أتعاب الطبيب. كذلك تبرز مشكلة ارتفاع سعر الفوط الصحية، فتضطرّ فتيات ونساء إلى استخدام القماش والورق والكرتون والصحف، الأمر الذي يعرّضهنّ إلى التهابات جلدية وفطريات والتهابات بالبول، وقد تنجم عن ذلك عواقب تستدعي تدخلاً طبيّاً مفقوداً بدوره وأدوية مضادة للالتهابات بات سعرها باهظاً كذلك (في حال توفّرت)".

صيدلانية في صيدلية في لبنان (جوزيف عيد/ فرانس برس)
مع فقدان الأدوية تحوّلت الصيدليات إلى متاجر مستحضرات للعناية الشخصية (جوزيف عيد/ فرانس برس)

أوجاع بالجملة
من جهة أخرى، يتحدّث الجردلي عن "تشخيص المرض بحدّ ذاته الذي لم يعد في متناول كثيرين". ويقول: "تشخيصي الأوّلي لأحد المرضى أنّه مصاب بسرطان البنكرياس، لكنّه غير قادر على تحمّل ثمن الفحوص الطبية لنتأكد من صحة شكوكنا. فكيف الحال إذا احتاج لاحقاً إلى علاج أو عمليّة جراحية؟ وتنسحب المعاناة كذلك على مرضى السكري، فالأنسولين كان مفقوداً، الأمر الذي أدّى إلى التهاب قدم أحد المرضى بعد ارتفاع معدّل السكري في دمه. والمشكلة أنّ الدواء المضاد للالتهابات بدوره مفقود، الأمر الذي يستدعي اليوم اللجوء إلى بتر قدمه، هذا في حال توفّرت كلفة العملية الجراحية".
ويسأل الجردلي: "ماذا عسانا نقول للمصابين بارتفاع ضغط الدم الذين بدورهم يعانون الأمرّين للحصول على دوائهم المفقود؟ وماذا ننتظر أمام مشهد مريض آخر يعاني من فقر دم ونقص في الحديد، وقد أُصيب أخيراً بجلطة قلبيّة، ولا يملك أيّ ليرة لتلقّي العلاج؟ أضف إلى أنّه يعيش منذ فترةٍ طويلة على وجبة واحدة في اليوم، هي عبارة عن أرزّ ولبن أو خبز ولبن فحسب".
ويلفت الجردلي إلى أنّ "ثمّة مستشفيات حكومية تطلب لقاء إدخال مريض 300 ألف ليرة (نحو 200 دولار بحسب سعر الصرف الرسمي ونحو 7.5 دولارات بحسب السوق الموازية) وهو مبلغ لا يملكه كثيرون، لا سيّما أنّ 70 في المائة من اللبنانيّين صاروا فقراء و20 في المائة يعيشون على أقلّ من دولار واحد في اليوم". ثمّ يسأل: "ماذا عن اللاجئين وظروفهم الصحية كذلك؟ وماذا عن أزمة هجرة ما يقارب نصف الأطباء والممرّضين والممرّضات من لبنان؟".
ويتطرّق الجردلي كذلك إلى لقاحات الأطفال الأساسية، "إذ بلغت نسبة تحصين الأطفال أقلّ من 50 في المائة، وفق الدراسات الأخيرة. وهذه مسألة خطيرة، إذ ما من علاج لهؤلاء الصغار في حال تعرّضوا إلى أمراض من قبيل شلل الأطفال والتيفوئيد والصفيرة (التهاب الكبد الوبائي). وسبب ذلك عدم توفّر اللقاحات، وإن وُجدت ففي المستوصفات ومراكز الرعاية الصحية الأولية التي باتت مقصد معظم المواطنين. بالتالي فإنّ تلك المراكز غير مهيّأة للأعداد الجديدة من الأطفال الذين كانوا يقصدون سابقاً العيادات الخاصة".
ويلفت الجردلي الذي ينشر بشكل دائم معاناة المرضى على صفحاته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أنّ "وزارة الصحة العامة تؤكّد دوماً أنّ الأدوية متوفّرة في مراكز الرعاية الصحية الأولية، لكن كما يُقال: انظر تفرح، جرّب تحزن. تماماً كمصارف لبنان التي شدّدت أكثر من مرّة على أنّ الودائع موجودة، لكنّنا لا نحصل على أموالنا ومدّخراتنا".

حقيبة أدوية معدة للنقل من قبرص إلى لبنان (كريستينا عاصي/ فرانس برس)
كثر هم المسافرون الذي يحملون معهم حقائب أدوية مماثلة عند عودتهم إلى لبنان (كريستينا عاصي/ فرانس برس)

وزارة الصحة: لسنا مصرف لبنان
في سياق متصل، تقول رئيسة مصلحة الصيدلة في وزارة الصحة العامة الدكتورة كوليت رعيدي: "أنا مسؤولة عن تأمين الدواء لكنّني لستُ مصرف لبنان"، كاشفة أنّ "التعاون يتمّ اليوم مع مصرف لبنان وفق أسس جديدة وبطريقة تضمن وصول الدواء بحسب الميزانية ومن ضمن الاعتمادات المصروفة شهرياً لوزارة الصحة العامة من قبل مصرف لبنان". تضيف رعيدي لـ"العربي الجديد": "لنكن واقعيّين، فمراكز الرعاية الصحية الأولية متوفّرة في كلّ أنحاء لبنان، وهي تؤمّن كلّ احتياجات النساء من تشخيص وفحوص وعلاجات على نفقة الوزارة. صحيح أنّ الأدوية ليست متوفّرة كلّها، لكنّ حبوب منع الحمل تتوفّر مثلاً. كذلك يُوزّع مجاناً نحو 90 دواءً أساسياً لمختلف الأمراض، إلى جانب لقاحات الأطفال الأساسيّة. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ ثمّة من يكابر ولا يقصد مراكز الرعاية الصحية الأولية، علماً أنّها مراكز مجانية للأطفال والنساء وكبار السنّ. ونحن نقوم بدورنا من خلال حملات توعية حول هذه المراكز لتوجيه المواطنين صوبها، عوضاً عن الاكتفاء بالتنقّل بين الصيدليات للحصول على الدواء المطلوب".

وعند سؤالها عن الحقن الخاصة بسيلان الدم، تؤكّد رعيدي أنّ "مراكز توزيع أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية، على سبيل المثال، ليست محصورة فقط في العاصمة بيروت"، مضيفة "عليّ أن أستوضح أمر ذلك من المسؤول عن مركز الكرنتينا، إذ ثمّة مستودعات للتخزين وأخرى للتوزيع. أمّا عن عدد النساء المهدّدات في لبنان على صعيد الصحة الإنجابية والنسائية، فنحن لسنا قسماً للإحصاء، إنّما ينحصر دورنا بتقديم معلومات عن الأدوية، هل كانت متوفّرة في خلال هذه الفترة أم لا؟ وما هو سبب التأخّر في تأمينها؟". وتشدّد رعيدي على أنّ "تأمين الدواء في لبنان بات اليوم أون/أوف (on/off)"، أي أنّه يتوفّر حيناً ولا يتوفّر في حين آخر، "وذلك لأسباب ترتبط بالشحن والموافقات المسبقة من مصرف لبنان، ثمّ يأتي دور وزارة الصحة العامة".

المساهمون