اختلف مفهوم الأحياء الراقية في العراق، وتحديداً في العاصمة، عما كان عليه في زمن مضى، وذلك بسبب عوامل عديدة. بالتالي، لم تعد تلك الأحياء مكاناً مفضلاً للسكن. واليوم، يبحث العراقيون عن مساكن في أحياء أخرى آمنة.
لم تقتصر التغيّرات في العاصمة العراقية بغداد على التركيبة السكانية لأحيائها ومناطقها العتيقة، والتي تمتد إلى قرون خلت، بل شملت الكثير من الأحياء الأخرى، ومنها تلك التي كانت تصنّف راقية. فخلال السنوات الأخيرة، لم تعد أحياء ومناطق كثيرة في بغداد تُصنّف بالراقية كما في السابق، بحسب معايير الأمن والخدمات والنظافة والبنى التحتية والسكان بشكل أساسي. ولم يعد السكن في مناطق كانت معروفة برقي سكانها وتنوعهم الثقافي وجودة الخدمات مرغوباً اليوم، مثل أحياء الكرادة والجادرية وزيونة وشارع فلسطين وحي القاهرة والبنوك ومناطق عدة في شرق ووسط بغداد، لأسباب كثيرة أبرزها سكن المسؤولين وقادة الأمن وزعماء المليشيات وقادتهم وأعضاء البرلمان فيها، الأمر الذي حوّل تلك المناطق إلى ثكنات عسكرية. كما أن التغييرات التي طرأت على سكان تلك المناطق لعبت دوراً أساسياً في تنامي المشاكل بين السكان الجدد الذين لا تربطهم علاقات تاريخية أو اهتمامات مشتركة.
أحمد الطائي، وهو مدير لشركة عقارات بارزة في بغداد، يقول إن "مفهوم الأحياء الراقية تغير في العاصمة بالمقارنة مع السنوات السابقة. الحي الذي كان يكتسب هذه الصفة يجب أن تتوفر فيه مواصفات عدة، أبرزها نوعية سكانه والخدمات المتوفرة فيه وطبيعة العمران. أما الآن، فالأحياء الراقية أو المرغوبة هي الأقل صخباً وبعداً عن المشاكل، ويعرف سكانها بعضهم بعضاً، كما أن هناك علاقات ألفة في ما بينهم". يتابع الطائي أنّ سكان العاصمة عموماً يبحثون عن المناطق الهادئة التي لا تسجّل فيها اغتيالات أو مشاكل أو سرقات، وليس فيها منزل لسياسي ولا عضو في مليشيا ولا قائد أمني تفادياً لوقوع أحداث أمنية أو مشاكل. ويؤكد أن "توفر خدمات المياه والكهرباء وشبكات الصرف الصحي هي من أولويات الأهالي في اختيار أو شراء مساكن لهم، وليس وجود عناصر أمنية أو غير ذلك. وهذا قد لا يقتصر على بغداد، بل يشمل كل محافظات العراق، بما فيها إقليم كردستان العراق أيضاً. لكن الأمر أكثر تجلياً في بغداد".
من جهته، يؤكّد مستشار معهد التخطيط الحضري والإقليمي في جامعة بغداد، ضياء العاملي، لـ "العربي الجديد"، أن "استقبال بغداد موجات كبيرة من النازحين من مدن مختلفة وسكنهم فيها بعد عام 2003، مع وقف العمل بقانون كان ينظم إلى حد كبير أعداد سكان العاصمة، وهجرة ما لا يقل عن مليونين عراقي من سكان بغداد عاصمتهم، خصوصاً الأحياء المعروفة بتنوعها الديني والثقافي، كلها عوامل أدت إلى تغيرات اجتماعية كبيرة، وحتّى على الصعيد العمراني. لذلك، لم تعد الأحياء الراقية المعروفة منذ العهد الملكي في بغداد كما في السابق. فالمنازل الفخمة (800 و900 متر مربع)، قسمت إلى ثلاثة أو حتى خمس منازل. وتحول العمران البسيط إلى بيوت ضخمة مع مراعاة الجانب الأمني فيه". ويوضح العاملي أن "الظاهرة باتت شائعة بعد عام 2014 بشكل أكبر، إذ إن احتلال تنظيم داعش للمناطق العراقية في شمال وغرب البلاد، وما أعقبه من ولادة عشرات المليشيات (غالبيتها لا تخضع لسيطرة الحكومة العراقية بشكلٍ كامل)، أدى إلى انفلات السلاح داخل المدن، وأوجد عصابات تفرض الإتاوات وتمارس إرهاباً داخلياً، من خلال الابتزاز والتعنيف والإغلاق والتهديد".
ويقول حمزة هادي، وهو صاحب مكتب لبيع العقارات في الكرادة، وهو حي راق في بغداد، إن "السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً في الإقبال على شراء المنازل والعقارات داخل المدينة، وبات هناك توجه لشراء الشقق السكنية. وخلال السنوات الست الماضية، حوّل كثيرون بيوتهم إلى مخازن، في وقت عمد البعض إلى هدمها وتحويلها إلى شقق، لينتقلوا إلى السكن خارج الكرادة. وبات اللجوء إلى أطراف العاصمة من أهم متطلبات العيش المحترم والآمن لدى أهالي بغداد، بسبب نفوذ العصابات وسيطرتها على الحي".
يضيف هادي في حديث لـ "العربي الجديد"، أن "العصابات لم تعد تفرض الإتاوات كما في السابق، بل باتت لها القدرة على طرد عائلات من بيوتها، وقد حصل هذه الأمر منتصف العام الماضي". كما أقدمت جماعة مسلحة بزي مدني على إغلاق زقاق كامل في حي الكرادة، وأجبرت ثلاث عائلات على الخروج من منازلها بحجة أنها عائلات مشبوهة، بسبب ملابسهم وأسلوب عيشهم. على الرغم من أن هذه الأجواء لم تؤثر على جميع السكان في الزقاق، إلا أنها ساهمت في نشر الخوف والقلق لدى غالبية أهالي الحي الأصليين". ويوضح أن "المواطن يطلب السكن في منطقة آمنة سكانها هادئون، ليس فيها نقاط أمنية ولا يسكنها مسؤولون. لذلك، بات هناك مناطق مفضلة للمواطنين بحسب هذه الامتيازات الجديدة. على سبيل المثال، فإن السكن في المنطقة المقابلة للأسواق المركزية في الغزالية غربي بغداد، والتي لم تكن أساساً مبنية قبل سنوات، صار مرغوباً الآن. والسبب هو أن المنطقة هادئة وسكانها موظفون ومتعلمون".
وعن حي المنصور، يؤكد عدد من الأهالي، في حديث لـ "العربي الجديد"، أن "الهاجس الأمني هو أكثر ما يدخل ضمن عامل تقييم أسعار العقارات. ولعلّ بعض حوادث قتل الضباط القدامى والقضاة والأطباء التي وقعت خلال السنوات الماضية بواسطة عصابات مسلحة، أثرت كثيراً على أمن المنطقة من جهة، وأسعار العقارات من جهة أخرى. كما أن سيطرة بعض المليشيات على الأبنية القريبة من المراكز الحيوية وتوغلها في الحياة التجارية والاقتصادية في الحي، تسببت بمغادرة بعض التجار وأصحاب المحال جرّاء التهديدات".
من جهتها، تتحدث هناء أنيس الشيخلي (45 عاماً) لـ "العربي الجديد" عن مغادرتها حي زيونة الراقي شرقي بغداد، بعدما تحول إلى معقل لمليشيات، فكانت النتيجة اختطاف ابنها ودفعها 30 ألف دولار لاستعادته. تقول: "كنت أسكن قرب دار الأزياء العراقية في شارع الربيعي في منزل ورثته عن والدي الذي كان ضابطاً في الجيش. وهذا حال بقية الجيران، وجميعهم ضباط في الجيش. إلا أن هجرة غالبية السكان من الحي وبيعهم منازلهم ولجوئهم إلى دول أخرى، كلها عوامل أدت الى نشوء حي غريب لا نعرفه قبل أن يتحول إلى مكان مسلح تعيش فيه المليشيات وأعضاء في البرلمان وسياسيون". وتشير إلى أن الحي لم يعد راقياً بل بات مؤرقاً ومتعباً، ما دفعها للانتقال إلى حي غربي بغداد، ينعم بالهدوء والأمن. وهذا هو مفهوم رقي الحي لديها وليس الشوارع النظيفة أو البيوت الكبيرة.
ويقول علي جعفر، وهو صاحب مطبعة في حي السعدون القريب من ساحة التحرير، قلب العاصمة بغداد، إن "التفجيرات التي تستهدف محال بيع المشروبات الكحولية، وزيادة حجم المخاطر الأمنية التي تسببها عناصر من خارج بغداد، متواطئة مع جهات سياسية وفصائل مسلحة معروفة، أدت إلى انخفاض أسعار المحال التجارية". ويوضح لـ "العربي الجديد" أن "أسعار المحال التجارية التي كانت تبلغ نحو 200 مليون دينار عراقي (نحو 137 ألف دولار)، باتت تُعرض حالياً بأقل من 120 مليون دينار (نحو 82 ألف دولار)، وليس هناك طلب حقيقي عليها. كما أن أسعار المنازل هبطت هي الأخرى".
وتشهد بغداد بين فترة وأخرى عمليات تفجير لمحال تبيع المشروبات الكحولية، وتهديد لأصحاب النوادي الترفيهية الليلية. كما تمارس بحق التجار وبعض الأهالي من أثرياء العاصمة ضغوط وتهديدات كثيرة، وتفرض إتاوات بحجج مختلفة. وقد شهدت بغداد العديد من العمليات الأمنية التي أثرت على الاستقرار والأمان فيها، تمثلت باستهداف المنطقة الخضراء، وضرب القواعد العسكرية ومطار المثنى والسفارة الأميركية. كل ذلك خلق توتراً في الأجواء التي عاشها العراق خلال السنوات القليلة الماضية.
بدوره، يقول العضو السابق في اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بغداد، سعد المطلبي، إن "الخروقات الأمنية التي تشهدها بغداد، والتي ازدادت خلال الأشهر الماضية، سواء لناحية استهداف المنطقة الخضراء أو المحال التجارية أو محال بيع المشروبات الكحولية، أو اغتيال ناشطين وتجار وخبراء، كلها عوامل أثرت على الحركة الاقتصادية والتجارية، وعلى أسعار العقارات، سواء كانت محال أو عمارات أو شركات أو بيوتاً". ويوضح أن أسعار العقارات تغيرت لأسباب عدة، منها أمنية وأخرى تتعلق بالأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والتي أدت إلى هبوط أسعار العقارات في بغداد وغيرها من المحافظات. ويرى أنه "من واجب الحكومة الحفاظ على أمن المجتمع وأمن البعثات الأجنبية وحماية المواطنين. كذلك، من واجبها، وبالتنسيق مع الوزارات وتحديداً وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة، اعتماد قوانين تحمي العقارات وأسعارها من أي تأثيرات، لأن انهيار أسعار العقارات لا يخدم المواطنين محدودي الدخل أو السكان الأصليين للمدن والأحياء، بل يخدم بعض المنتفعين الذين قد تكون لديهم يد أصلاً في زعزعة الأمن من أجل الحصول على أكبر عدد من الوحدات السكنية أو العقارات السكنية أو التجارية".