ستعيد تركيا، بدءاً من منتصف يناير/ كانون الثاني المقبل، فرض رسوم على زوار جامع آيا صوفيا في مدينة إسطنبول، وذلك بعد ثلاث سنوات من تحويله من متحف إلى مسجد والسماح بدخوله مجاناً. وقال وزير الثقافة والسياحة التركي، محمد نوري أرصوي، في مؤتمر صحافي عقده في مركز أتاتورك للثقافة: "يعتبر جامع آيا صوفيا تراثاً مشتركاً للبشرية، لذا سيُدمج في نظام بيئي يركز على حفظ التراث، وتحسين جودة الزيارة. وستشمل الإجراءات الجديدة المتخذة أيضاً تغيير مدخل الزوار الأجانب، وتقديم جولة داخل المتحف قبل إخراجهم من بوابة مختلفة، وتوفير تطبيق على الهواتف الخلوية يقدم معلومات للزوار بـ16 لغة، ما يسمح بتعزيز التجربة التفاعلية".
وزاد عدد الزوار والمصلين في آيا صوفيا بعد تحويله من متحف إلى جامع في يوليو/ تموز 2020، خلال مرحلة وباء كورونا في العالم، بحسب ما تفيد وزارة السياحة. وبلغ عدد الزوار الأجانب غير المصلين نحو 21 مليوناً خلال 3 سنوات، كما شهد المسجد نحو 120 حالة لاعتناق الإسلام، وأمّ رئيس الشؤون الدينية التركي علي أرباش المصلّين في صلاة فجر أقيمت في الذكرى الثالثة لإعادة آيا صوفيا إلى مسجد.
ومرّ معلم آيا صوفيا التراثي العالمي بمراحل وتبدلات زادت تسليط الضوء عليه، إذ بقيّ كنيسة لمدة 916 عاماً، ثم مسجداً بعد فتح القسطنطينية عام 1453، قبل أن يتحوّل إلى متحف بناء لقرار أصدره مجلس الوزراء التركي عام 1934. واستمر ذلك حتى عام 2020 حين حكم القضاء، بناء على دعوى رفعتها جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة، بإلغاء قرار مجلس الوزراء السابق، وإعادة تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، ما نقل مهمات الإشراف عليه إلى رئاسة الشؤون الدينية، فشهد آيا صوفيا في 24 يوليو/ تموز 2020 إقامة أول صلاة جماعية بعد 86 عاماً، وترافق ذلك مع تنظيم احتفال كبير حضره الرئيس رجب طيب أردوغان.
يقول العامل في قطاع السياحة فهري أيت لـ"العربي الجديد": "لم تشهد الفترة الأولى لجامع آيا صوفيا إقبالاً كبيراً من الزوار الأجانب بسبب الحظر الذي فرض خلال مرحلة وباء كورونا، ثم زاره 1.3 مليون شخص في العام التالي، رغم استمرار المخاوف من الوباء، وبعده 13.6 مليوناً عام 2022، في حين تجاوز عدد الزوار 6 ملايين في النصف الأول من العام الحالي، ما يعني أن هذا المعلم الديني يعتبر من أكثر الأماكن التي تجذب السياح في إسطنبول".
وحول جنسيات الزوار لآيا صوفيا، يلفت أيت إلى أن "الأوروبيين يأتون في المرتبة الأولى، لكن العرب والآسيويين أيضاً لا يغادرون إسطنبول من دون زيارة المسجد. ويأتي البعض ضمن مجموعات كبيرة خصيصاً لزيارة جامع آيا صوفيا".
ويشير أيت إلى أن السلطات التركية لم تحدد الرسم الذي سيدفع لمن يزور مسجد آيا صوفيا، والذي كان 60 ليرة تركية (2.12 دولار) قبل عام 2020، حين كان متحفاً، في حين سيبقى الدخول مجاناً للأتراك. وبالنسبة إلى ملابس السياح فيُرجح أن يكون كيفياً في ظل دخولهم من باب خاص للتجوّل في الداخل، ثم الخروج من باب يخصص لهم. ووفق العرف التركي الخاص بالأماكن الدينية، لا يلزم أي زائر بارتداء لباس محدد، لكن القواعد المعمول بها في كل دور العبادة بالعالم تفرض أن يكون اللباس محتشماً، مع التصرف في شكل لائق.
وتقول مراجع تاريخية أنه ورد ذكر آيا صوفيا للمرة الأولى عام 360 عندما بنيت الكنيسة في فبراير/ شباط في عهد الإمبراطور قسطنطين الثاني، لكنها تدمرت بسرعة بسبب حريق اندلع فيها. ثم أعاد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بناءها وترميمها عام 415، أما البناء الحقيقي لآيا صوفيا بشكلها الحالي فيعود إلى عام 537 في عهد الإمبراطور جستنيان الأول، وذلك بعد الحريق الثاني الذي اندلع عام 532، خلال الاحتجاجات على سياسة جستنيان ورفع الضرائب.
وأخذت آيا صوفيا حينها شكلها الهندسي النهائي بارتفاع 100 متر وقبة طولها 55 متراً وقطرها 30 متراً. وهي لم تأخذ اسم أي قديس كما المعتاد، وباتت مركزاً للديانة المسيحية الأرثوذكسية في الشرق نحو ألف عام، قبل أن تشهد بداية الانشقاق بين مسيحيي الشرق والغرب عام 1054 حين شهد مبناها عزل البطريرك ميخائيل الأول سيرولاريوس من قِبل مبعوث البابا ليو التاسع. وبعدها تبدلت وظائف آيا صوفيا إثر دخول محمد الفاتح القسطنطينية في القرن الخامس عشر وانهيار الدولة البيزنطية، حين رفع أذان العصر وأقيمت أول صلاة بآيا صوفيا.
وتتحدّث روايات عن أن السلطان محمد الفاتح تأثر كثيراً لدى رؤيته آيا صوفيا، وراح يتفحّص كلّ قبّة منها ويراقب المدينة من هناك بتمعّن. ثم أمر برفع الأذان فيها، وكانت صلاة الجمعة الأولى فيها بتاريخ الأوّل من يونيو/ حزيران من عام 1453، التي أمّها الشيخ آق شمس الدين، أحد شيوخ محمد الفاتح ومربّيه.
تشير رواية أخرى إلى أنّ رجال دين مسيحيين وعدداً من المواطنين لجأوا إلى آيا صوفيا عندما علموا بسيطرة العثمانيين على مدينة القسطنطينية، ما دفع الفاتح إلى إبلاغهم بأنّه لا داعي للخوف وأنّ أرواحهم وأموالهم وأعراضهم باتت أمانة في عنقه، وأكّد لهم أنّه في إمكانهم العودة إلى ديارهم وأعمالهم بأمان.
وظهرت لمسات الإمبراطورية العثمانية على المكان بعدما أزيلت الكثير من أحجار الفسيفساء، وجرت تغطية الأيقونات والرسوم المسيحية بجبس من دون تخريبها في عهد المعماري العثماني الأشهر سنان الذي أضاف المآذن إلى القبة.
وجرى ترميم مسجد آيا صوفيا بين عامي1847 و1849، في عهد السلطان عبد المجيد، وذلك بإشراف معماريين اثنين من سويسرا وإيطاليا. وترافق ذلك مع كشف الفسيفساء في القسم العلوي، واستبدال الثريات الضخمة، وتقويم الأعمدة، وإضافة زخارف داخلية وخارجية، وكتابة الخطاط مصطفى عز أفندي كلمات عربية بينها الله، محمد، أبو بكر، عمر، عثمان وعلي، وأحفاد الرسول محمد، حسن وحسين.
وبقيت آيا صوفيا مسجداً نحو 482 عاماً حتى عصر أول رئيس للجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك الذي حوّلها إلى متحف. ثم رفعت جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة عام 2008 دعوى أمام مجلس الدولة ضد قرار مجلس الوزراء عام 1934 تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف. لكن الدعوى رُفضت، ثم قدمت الجمعية التماساً إلى المحكمة الدستورية عام 2015 أشارت فيه إلى أن "رفض إعادة آيا صوفيا للعبادة ينتهك حرية الأديان. وجاء ذلك في العام التالي لتنظيم جمعية "شباب الأناضول" عام 2014 صلاة الفجر في ساحة المسجد بشعار "أحضِر سجادتك وتعال". ثم رُفع الأذان مجدداً من داخل متحف آيا صوفيا بإسطنبول في فجر ليلة القدر عام 2016، خلال برنامج استثنائي نظمته رئاسة الشؤون الدينية التركية. وأعقب ذلك السماح برفع الأذان من مآذن المتحف في بعض المناسبات من غرفة خاصة للمؤذن في ساحة المتحف.
وجاء الموعد النهائي لتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، بعد الحكم القضائي، في 24 يوليو/ تموز 2020، وهو التوقيت الذي يرى كثيرون أنه مدروس لأنه صادف ذكرى معاهدة لوزان الثانية التي جرى توقيعها في 24 يوليو/ تموز 1923 بين تركيا وكل من بريطانيا وفرنسا، وجرى فيها رسم الحدود الحالية لتركيا، وتقاسم أراضي الإمبراطورية العثمانية.