تشهد دول أوروبية عدّة موجة احتجاجات تتّخذ طابعاً عنفياً رفضاً للقيود المشدّدة التي تفرضها الحكومات مجدّداً في ظل ارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا الجديد، بالإضافة إلى فرض إلزامية اللقاحات المضادة لكوفيد-19 في عدد من الدول، منها النمسا. بعض المحتجين لا يرفضون الإغلاق العام فحسب، بل أيضاً الحصول على اللقاحات التي يعتبرونها جزءاً من مؤامرة بدأت من خلال تطوير الفيروس وما زالت مستمرة حتى اليوم. فمنذ يوم السبت الماضي، تشهد هولندا احتجاجات عنفية، في وقت تظاهر عشرات الآلاف في العاصمة النمساوية فيينا، حيث تجمع أكثر من 40 ألف شخص على مرمى حجر من قصر هوفبورغ الإمبراطوري السابق للتنديد بـ "ديكتاتورية كورونا" و"الفاشية"، وذلك على خلفية إجراءات الإغلاق التي أصبحت سارية منتصف ليل أول من أمس. وفي بلجيكا، هتف المتظاهرون أمس طلباً للحرية، وعلت أصواتهم بأغنية "بيلا تشاو" المضادة للفاشية، واصطفوا وراء لافتة ضخمة كتب عليها "معاً من أجل الحرية"، وتوجهوا صوب مقر الاتحاد الأوروبي، احتجاجاً على زيادة القيود التي تفرضها الحكومة لمواجهة الارتفاع الكبير في أعداد الإصابات.
في النتيجة، يبدو أن ما تشهده أوروبا هو تشكل نواة رافضة للقاحات المضادة لكوفيد-19، حيث تشهد صدامات في الشوارع بين آلاف المعارضين للقاحات والشرطة، من بينها النمسا وهولندا وفرنسا وألمانيا. ويسعى اليمين المتطرف إلى استغلال هذه المعارضة والدخول على خطها لاكتساب المزيد من الشعبية بحجة رفض "ديكتاتورية اللقاحات" وسلب الناس الحق في حرية تقرير مصيرها. وهذا ما يُروّج له حزب "الحرية" النمساوي مثلاً بزعامة وزير الداخلية السابق هربرت كيكل، الذي شارك في الحكومة السابقة قبل خروجه منها بفضيحة لزعيمه السابق هاينز كريستيان شتراخه، عرفت باسم فضيحة "إبيزا" الإسبانية. واتهم كيكل حكومة فيينا بـ "فرض نظام ديكتاتوري" في البلاد.
ويستند رافضو الحصول على اللقاحات في مواقفهم إلى العديد من نظريات المؤامرة. وتُواجه السلطات صعوبة في إقناع هؤلاء بأهميّة تلقي اللقاحات. ومنذ ما قبل تطوير اللقاحات، كان بعضهم على قناعة بأن "كورونا ليس إلا مؤامرة عالمية لفرض ديكتاتورية على المجتمعات واستخدامه كسلاح بيولوجي أولاً، وتحقيق أرباح من الأثرياء وشركات الأدوية ثانياً".
ويحمل رافضو الحصول على اللقاحات خلال تظاهراتهم في كل من النمسا وهولندا أعلاماً للحركة المعروفة باسم "كيو أنون" (تشكيل غامض مؤيد للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب يروج لنظريات المؤامرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويقول أتباعه إن دولة عميقة تسيطر على الولايات المتحدة) والتي انتشرت على نطاق واسع بين الأميركيين المؤيدين لترامب، في إشارة إلى إيمانهم بوجود فعلي لتلك المؤامرات، على الرغم من أن بعض الدول شهدت تلقيح غالبية سكانها، ما يطرح تساؤلات وشكوكاً حول وحدة هذه الشعارات المؤيدة لنظرية المؤامرة التي ترفعها التحركات المختلفة.
في هذا السياق، تستعرض "العربي الجديد" أهم نظريات المؤامرة المتعلقة بكورونا واللقاحات المضادة لكوفيد-19 التي تروّج لها هذه المجموعات الرافضة اللقاحات، وأهمها:
يُسبّب عقماً للنساء
يعتقد بعضهم أنّ النخبة العالميّة عملت على مدار سنوات للحد من النمو السكاني العالمي. ويؤمن هؤلاء بأن النخبة التي تدعم اللقاحات، والتي تضم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي ينفذ مؤامرة شيطانية، ومؤسس شركة "مايكروسوفت" بيل غيتس، اخترعت وخططت لتطوير فيروس كورونا للحدّ من نسبة السكان على الأرض. كما طورت اللقاحات لنشر العقم بين النساء.
رقائق في اللقاحات
يعتقد بعضهم أن اللقاحات المضادة لكوفيد-19 تحتوي على معادن أو رقائق إلكترونية مايكروية، يتم حقنها بأجسام المتلقين. وشاعت نظرية "مؤامرة الرقائق" حول العالم. وبحسب دراسات أميركية، فقد آمن نحو 20 في المائة من البالغين الأميركيين بتلك المؤامرة، وشارك بنشرها بعض المشاهير، مثل سائق سيارات السباقات السابق لويس هاميلتون، ومؤيدين للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب داخل أميركا وفي القارة الأوروبية. ويعتقد هؤلاء أن بيل غيتس يقود نخبة تريد وضع سكان الأرض تحت مراقبة دائمة، من دون تقديم تفاصيل حول الهدف من تلك المراقبة المزعومة.
بقايا أجنة
يؤمن هؤلاء بأنّ الحكومات تتولّى تطعيم الشعوب بلقاحات تضم مكونات يخفيها "الماسونيون والمتنورون" وغيرهم من "نخب الحكم العالمي"، وتضم برأيهم "بقايا أجنة" مُجهضة ومادة "الشيطان" التي يطلقون عليها "إس إم 102" لتتبع الناس. ولا يذكر أصحاب هذه النظرية ما يمكن أن تفعله بقايا الأجنة تلك في جسم الإنسان، بل يركزون أكثر على بعض الآراء الغريبة التي يطرحها أطباء مغمورون هنا وهناك.
نظام متحكم بالشعوب
يعتقد هؤلاء أنّ اللقاحات دواء وهمي يقصد منه تنفيذ خطة "إعادة الضبط العظيمة". وإذا لم يكن الجميع قد سمع بتلك النظرية، فإن مروجيها يستغلون كل منبر ونشاط لإقناع الآخرين بأن ما يجري هو "تطبيق لخطة قمة دافوس" (المنتدى الاقتصادي العالمي) للتحكم بالشعوب والدول من خلال بوابة الأزمات الاقتصادية والمالية. وتقوم النظريّة باختصار على أن الحكومة العالمية الخفية تواصل فرض سلسلة من القيود على السكان بالاعتماد على "نشر الخوف لترسيخ نظام اقتصادي يتحكم بالشعوب". ولتنفيذ ذلك، سيتم رقمنة كل شيء حتى تختفي مستقبلاً كل الحقوق وتشغيل الناس كعبيد لدى النخبة من خلال نظام يساري دولي يستغل بؤس أوضاع سكان الأرض الاقتصادية. واللافت في هذه النظرية أنها تلتقي أيضاً مع القائلين بوجود "ماسونية ومتنورين" يتحكمون بالأرض.
تغيير الحمض النووي
وليس بعيداً عن النظرية السابقة، يسود اعتقاد لدى المحتجين منذ العام الماضي وقبيل اختراع اللقاحات وانتشارها، أن "النخبة العالمية" خدعت البشر من خلال "سرعة التوصل إلى اللقاح" الذي يتطلب عادة "سنوات طويلة من البحث" بحسب ما يعتقدون. وعليه، يرى أصحاب تلك النظرية أن اللقاح "المزعوم" يحتوي على تقنية تجريبية لتغيير الحمض النووي للبشر بهدف ضبطهم وتسييرهم وفق مخططات النخبة العالمية، وراجت تلك النظرية بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص فيسبوك. إذاً، فإن مسألة البحث العلمي واللقاحات ليست سوى خديعة "النخبة"، كما ظل يروج جماعة "كيو أنون" وموقع "تشان 4"، وأشباهه من مواقع نشر نظريات المؤامرة التي تحيل في أحيان كثيرة المتابعين والباحثين عنها إلى ما تسميه تقارير ووثائق وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) الموصوفة أيضاً بـ "السرية"، من دون أن توضح كيف يمكن الوصول إلى تلك الأدلة السرية.
السلطات في مواجهة نظرية المؤامرة
يُنظر إلى انتشار نظريات المؤامرة في الغرب على محمل الجد. وقد استفحلت بشكل غير مسبوق خلال العام الحالي، ما دفع الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، للرد رسمياً عليها والعمل على نشر الوعي حولها، بحسب الموقع الرسمي للاتحاد الأوروبي. وحتى خلال التظاهرات التي ضمت فقط بضعة آلاف، كما حصل في كل من روما ونابولي الإيطاليتين وروتردام ولاهاي الهولنديتين، بالإضافة إلى انتشار آلاف رجال الشرطة في النمسا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول لمواجهة بضعة آلاف، تخشى القوى السياسية والأمنية أن تستغل أحزاب وحركات اليمين المتطرف هذا الواقع، وتبنّي خطابات عنصرية وعنفية بحجة الوطنية ومحاربة المؤامرة.
تحذير من انقسام
وسبق أن شهدت ألمانيا العام الماضي، تبنّي نظريات من قبل حركات اليمين المتطرف، واستغل حزب يميني متشدّد تقليدي، مثل "البديل لأجل ألمانيا" تذمر قطاعات من الشارع بسبب الإجراءات الحاسمة لمواجهة الجائحة. والآن، يبدو أنّ النواة الصلبة المنكرة لكورونا واللقاحات باتت أكثر عنفاً في صدامات الشارع. ويحذر علماء اجتماع غربيون من أن يؤدي ذلك إلى انقسام داخل المجتمعات.
وتبدو حركات التطرف اليميني خارج أطر الأحزاب التقليدية كما في النمسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا، وترويجها لنظرية "استبدال البيض" بمهاجرين من خارج الغرب، جاذبة للمهتمين بنظريات المؤامرة، وخصوصاً مع إدخال عنصر تشويق عن "مشاركة اليهود في المؤامرة العالمية". وشهدت فرنسا خلال صيف العام الحالي تحركات عدة ضد رموز يهودية، مثل استهداف نصب تذكاري للناجين من معسكر اعتقال نازي غرب البلاد، رسم عليه بعد تلطيخه بالبراز والخردل الصليب المعقوف وعبارات تندد بمؤامرة اليهود.
حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متّهم بأنه "تابع لبنك روتشيلد" و"النخبة اليهودية". وتتوافق نظريات هؤلاء مع مثيلاتها عند بعض ساسة دول أوروبية، مثل المجر وبولندا والتشيك وغيرها، حول أن الكاتب اليهودي الفرنسي هنري ليفي والملياردير اليهودي الأميركي من أصل مجري جورج سوروس وغيرهما من اليهود خونة ينفذون مؤامرة عالمية على البيض الأوروبيين. تلك الاتهامات رصدتها منظمة متخصصة في رصد الكراهية والعنف ضد اليهود، وهو ما أشار إليه بشكل تفصيلي تقرير لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية في 22 أغسطس/ آب الماضي.
في العموم، لا تؤيد غالبية شعوب القارة الأوروبية نظريات المؤامرة المتعلقة بكورونا وتداعياتها الصحية. إلا أن مؤشرات توسع إعطاء اللقاحات وإقدام غالبية مواطني القارة، بأكثر من 65 في المائة في المتوسط، لتلقي الجرعات، لا تلغي في الوقت نفسه وجود عشرات الآلاف ممن يعتبرون أن حرياتهم الشخصية على المحك. ويتذرع هؤلاء، سواء في التظاهرات العنيفة أو رفض الإجراءات المشددة، بسياسة إجبار المواطنين على أخذ اللقاح، من خلال جملة من القرارات التي يشعرون أنها "تهمّش" رافضي التطعيم. أما عن ميل الأنظمة الديمقراطية في المجتمعات الغربية نحو الديكتاتورية، فإن الوقائع تفيد بعكسها، وخصوصاً أن مجتمعات في أوروبا، وبالأخص في دول الاتحاد الأوروبي، ذهبت إلى انتخابات (كألمانيا وغيرها) في زمن الجائحة وأخرى ذاهبة إليها في العام المقبل، وبمشاركة أطياف مختلفة، بمن فيهم أقصى اليمين.
وما تسوقه السلطات في تلك المجتمعات حول ضرورة تلقي اللقاحات، يستند إلى أنه لا يمكن تحقيق مناعة شعبية في وجه الفيروس من دون إجراءات صارمة، وهو ما يتسلح به مروجو نظرية المؤامرة، وكأن الحالة تشبه الدوران في حلقة مفرغة من تبرير في مقابل تبرير، وأخطره ذلك المستند على معارضة السلطات التقليدية بعنف وانقسامات مجتمعية يحذر من انعكاساتها متخصصون في علوم الاجتماع السياسي في أوروبا وعموم الغرب.